الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإذا اجتمعت صلاة الكسوف مع غيرها قدم أخوفهما فوتا ، فإن استويا في الفوت قدم أوكدهما ، فإن اجتمعت مع صلاة الجنازة قدمت لأنه يخشى عليه التغيير والانفجار ، وإن اجتمعت مع المكتوبة في أول الوقت بدأ بصلاة الكسوف لأنه يخاف فوتها بالتجلي ، فإذا فرغ منها بدأ بالمكتوبة قبل الخطبة للكسوف لأن المكتوبة يخاف فوتها والخطبة لا يخاف فوتها وإن اجتمعت معها في آخر الوقت بدأ بالمكتوبة لأنهما استويا في خوف الفوات والمكتوبة آكد فكان تقديمها أولى ، وإن اجتمعت مع الوتر في آخر وقتها قدمت صلاة الكسوف لأنهما استويا في الفوت ، وصلاة الكسوف أوكد ، فكانت بالتقديم أحق )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله : إذا اجتمع صلاتان في وقت واحد قدم ما يخاف فوته ، ثم الأوكد ، فإذا اجتمع عيد وكسوف ، أو جمعة وكسوف وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق الوقت قدم العيد والجمعة ، لأنهما أوكد من الكسوف وإن لم يخف فوتهما فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف والأكثرون يقدم الكسوف لأنه يخاف فوته ( والثاني ) حكاه الخراسانيون فيه قولان ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) يقدم الجمعة والعيد لتأكدهما قال الشافعي وأصحابنا : وباقي الفرائض كالجمعة ، ولو اجتمع كسوف ووتر أو تراويح قدم الكسوف مطلقا لأنها أوكد وأفضل ، ولو اجتمع جنازة وكسوف أو عيد قدم الجنازة ; لأنه يخاف تغيرها قال أصحابنا : ويشتغل الإمام بعدها بالصلاة الأخرى ولا يشيعها ، بل يشيعها غيره ، فإن لم تحضر [ ص: 62 ] الجنازة أو أحضرت ولم يحضر الولي أفرد الإمام جماعة ينتظرونها ، واشتغل هو والناس بالصلاة الأخرى ولو حضرت جنازة وجمعة ولم يضق الوقت قدمت الجنازة بلا خلاف ، نص عليه ، واتفقوا عليه ، لما ذكرناه ، وإن ضاق وقت الجمعة قدمت على المذهب الصحيح المنصوص في الأم ، وبه قطع الجماهير ، ونقل إمام الحرمين وغيره عن الشيخ أبي محمد الجويني تقديم الجنازة ; لأن الجمعة لها بدل ، وهذا غلط لأنه - وإن كان لها بدل - لا يجوز إخراجها عن وقتها عمدا قال الشافعي والأصحاب : وإذا اجتمع العيد والكسوف ، والوقت متسع أو ضيق ، صلاهما ثم خطب لهما بعد الصلاتين خطبتين ، يذكر فيهما العيد والكسوف

                                      ولو اجتمع جمعة وكسوف واقتضى الحال تقديم الجمعة خطب لها ثم صلى الجمعة ، ثم الكسوف ، ثم خطب للكسوف ، وإن اقتضى الحال تقديم الكسوف بدأ بها ، ثم خطب للجمعة خطبتها ، وذكر فيهما شأن الكسوف وما يندب في خطبتيه ولا يحتاج إلى أربع خطب ، وقال أصحابنا ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة وكذا نص عليه الشافعي في الأم قال أصحابنا : ولا يجوز أن يقصد الجمعة والكسوف معا ، لأنه تشريك بين فرض ونفل بخلاف العيد والكسوف ، فإنه يقصدهما بالخطبتين لأنهما سنتان هكذا قالوه وفيه نظر لأن السنتين إذا لم تتداخلا لا يصح أن ينويهما بصلاة واحدة ولهذا لو نوى بركعتين صلاة الضحى وقضاء سنة الصبح لا تنعقد صلاته ، ولو ضم إلى فرض أو نفل نية تحية المسجد لم يضر ، لأنها تحصل ضمنا فلا يضر ذكرها قال الشافعي في البويطي : لو اجتمع عيد وكسوف ، واستسقاء ، وجنازة ، يعني والوقت متسع بدأ بالجنازة ثم الكسوف ، ثم العيد ، ثم الاستسقاء ، فإن خطب للجميع خطبة واحدة أجزأه قال الشافعي في الأم : وإذا بدأ بالكسوف قبل الجمعة خففها فقرأ في كل ركعة بالفاتحة ، وقل هو الله أحد ، وما أشبهها

                                      قال في الأم : وإن كان الكسوف بمكة عند رواح الإمام والناس في اليوم الثامن إلى منى صلوا الكسوف ، فإن خاف أن تفوته صلاة الظهر بمنى صلاها [ ص: 63 ] بمكة ، قال : وإن كان الكسوف بعرفة عند الزوال قدم الكسوف ثم صلى الظهر والعصر ، فإن خاف فوتهما بدأ بهما ، ثم صلى الكسوف ، ولم يتركه للوقوف ، وخفف صلاة الكسوف والخطبة قال : وإن كسفت وهو في الموقف بعد العصر صلى الكسوف ثم خطب على بعيره ودعا ، قال : وإن خسف القمر قبل الفجر بالمزدلفة أو بعده صلى الكسوف وخطب ، ولو حبسه ذلك إلى طلوع الشمس ، ويخفف لكي لا يحبسه إلى طلوع الشمس إن قدر ، قال : وإن خسف القمر وقت صلاة القيام يعني التراويح بدأ بصلاة الخسوف

                                      ( فصل ) اعترضت طائفة على قول الشافعي : اجتمع عيد وكسوف ، وقالت هذا محال لأن كسوف الشمس لا يقع إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين وكسوف القمر لا يكون في وقت صلاة العيد ، ولا يكون إلا ليلة الرابع عشر أو الخامس عشر ، وأجاب الأصحاب عن هذا بأجوبة ( أحدها ) أن هذه الدعوى يزعمها المنجمون ، ولا نسلم انحصاره فيما يقولون بل نقول : الكسوف ممكن في غير اليومين المذكورين ، والله على كل شيء قدير وقد جاء مثل ما قلناه فقد ثبت في الصحيح أن الشمس كسفت يوم توفي إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروينا في كتاب الزبير بن بكار ، وسنن البيهقي وغيرهما أنه توفي يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول سنة عشر من الهجرة وإسناده - وإن كان ضعيفا - فيجوز التمسك به في مثل هذا ، لأنه لا يرتب عليه حكم ، وقد قدمنا في مواضع أن أهل العلم متفقون على العمل بالضعيف في غير الأحكام وأصول العقائد ; وأيضا فقد نقل متواترا أن الحسين بن علي رضي الله عنهما قتل يوم عاشوراء ، وذكر البيهقي وغيره عن أبي قبيل - بفتح القاف وكسر الباء الموحدة - وغيره : أن الشمس كسفت يوم قتل الحسين رضي الله عنه ( الثاني ) يتصور وقوع العيد في الثامن والعشرين بأن يشهد اثنان بنقصان رجب وآخران بنقصان شعبان ورمضان وكانت في الحقيقة كاملة فيقع العيد في الثامن والعشرين عملا بالظاهر الذي كلفناه ( الثالث ) لو لم يكن ذلك ممكنا كان تصوير الفقهاء له حسنا للتدرب باستخراج الفروع الدقيقة وتنقيح الأفهام كما يقال في مسائل الفرائض " ترك مائة جدة " مع أن هذا العدد لا يقع في العادة والله أعلم



                                      [ ص: 64 ] فرع ) في مسائل تتعلق بالكسوف ( إحداها ) قال الشافعي في الأم في آخر كتاب الكسوف : لا أكره لمن لا هيئة لها من النساء لا للعجوز ولا للصبية شهود صلاة الكسوف مع الإمام [ ص: 65 ] بل أحبها وأحب إلي لذوات الهيئة أن يصلينها في بيوتهن قال : وإن كسفت وهناك رجل مع نساء فيهن ذوات محرم منه صلى بهن ، وإن لم يكن فيهن ذوات محرم منه كرهت ذلك له وإن صلى بهن فلا بأس قال : فإن صلى النساء فليس من شأنهن الخطبة ; لكن لو ذكرتهن إحداهن كان حسنا هذا نصه بحروفه وتابعه عليه الأصحاب



                                      ( الثانية ) قال الشافعي في الأم ومختصر المزني " ولا يجوز ترك صلاة الكسوف عندي لمسافر ولا مقيم ولا لأحد جاز له أن يصلي بحال ، فيصليها كل من وصفت بإمام تقدمه ومنفردا إن لم يجد إماما ويصليها كما وصفت في صلاة الإمام ركعتين في كل ركعة ركوعان " وكذلك خسوف القمر " قال : " وإن خطب الرجل الذي وصفت فذكرهم لم أكرهه " هذا نصه في الأم بحروفه واقتصر في مختصر المزني على قوله " ولا يجوز تركها لمسافر ولا مقيم بإمام ومنفرد " هذا نصه وقد يستشكل قوله " لا يجوز ترك صلاة الكسوف " ومعلوم أنها سنة بلا خلاف وجوابه أن مراده أنه يكره تركها لتأكدها لكثرة الأحاديث الصحيحة في الأمر بها كقوله { صلى الله عليه وسلم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا } وفي رواية " فافزعوا إلى الصلاة " وفي رواية " فصلوا حتى يفرج عنكم " وفي رواية " فصلوا حتى تنجلي " وكل هذه الألفاظ في الصحيحين فأراد الشافعي أنه يكره تركها ، فإن المكروه قد يوصف بأنه غير جائز من حيث إن الجائز يطلق على مستوى الطرفين ، والمكروه ليس كذلك ، وحملنا على هذا التأويل الأحاديث الصحيحة أنه لا واجب من الصلاة غير المكتوبات الخمس ونصوص الشافعي على ذلك ، وفي كلامه هنا ما يدل عليه ، فإن قوله : ولا لأحد جاز له أن يصلي بحال وهذه العبارة يدخل فيها العبد والمسافر والمرأة وغيرهم ممن لا تلزمهم الجمعة ، فكيف يظن أن الشافعي يوجب عليهم صلاة الكسوف ، وقد أوضح الشافعي هذا في البويطي فقال في الباب الأول من بابي الكسوف : يصلي صلاة الكسوف بعد الصبح وبعد العصر وفي كل [ ص: 66 ] حين لأنهما ليسا نافلتين ولكنهما واجبان وجوب سنة هذا نصه وهو صريح في كونهما سنة وفي أنه أراد تأكيد الأمر بهما وقوله " واجبان وجوب سنة " ونحوه الحديث الصحيح " { غسل الجمعة واجب على كل محتلم } " والله أعلم



                                      ( الثالثة ) قال الشافعي في الأم : إذا صلى الرجل وحده صلاة الكسوف ثم أدركها مع الإمام صلاها كما يصنع في المكتوبة قال وكذلك المرأة



                                      ( الرابعة ) المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى فقد أدرك الركعة كلها ويسلم مع الإمام كسائر الصلوات وإن أدركه في الركوع الأول من الركعة الثانية فقد أدرك الركعة ، فإذا سلم الإمام قام فصلى ركعة أخرى بركوعين وقيامين كما يأتي بها الإمام ، وهذا لا خلاف فيه ، ولو أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين فالمذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي في البويطي واتفق الأصحاب على تصحيحه ، وقطع به كثيرون منهم أو أكثرهم أنه لا يكون مدركا لشيء من الركعة ، كما لو أدرك الاعتدال في سائر الصلوات وحكى صاحب التقريب وجماعة من الخراسانيين عنه قولا آخر أنه يكون مدركا للقومة التي قبله ، فعلى هذا إذا أدرك الركوع الثاني من الأولى قام بعد سلام الإمام وركع واعتدل وجلس وتشهد وسلم ولا يسجد ، لأن إدراك الركوع إذا حصل به القيام الذي قبله كان حصول السجود الذي بعده أولى ، وعلى المذهب لو أدركه في القيام الثاني لا يكون مدركا لشيء من الركعة أيضا قال الشافعي في البويطي : وإذا أدرك المسبوق بعض صلاة الإمام وسلم الإمام قام وصلى بقيتها ، سواء تجلى الكسوف أم دام ، قال : فإن لم يكن انجلت طولها كما طولها الإمام ، وإن كانت انجلت خففها عن صلاة الإمام



                                      ( الخامسة ) قال الشافعي في الأم : ولو كسفت الشمس ثم حدث خوف صلى الإمام صلاة الخسوف صلاة خوف ، كما يصلي المكتوبة صلاة خوف ، لا يختلف ذلك قال : وكذلك يصلي صلاة الكسوف صلاة شدة الخوف [ ص: 67 ] بالإيماء حيث توجه راكبا وماشيا فإن أمكنه الخطبة والصلاة خطب وإلا فلا يضره قال : وإن كسفت الشمس في حضر فغشي أهل البلد عدو مضوا إلى العدو ، فإن أمكنهم في صلاة الكسوف ما يمكنهم في المكتوبة صلوها صلاة الخوف ، وإن لم يمكنهم ذلك صلوها صلاة شدة الخوف طالبين ومطلوبين هذا نصه



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في عدد ركوع الكسوف قد ذكرنا أن مذهبنا أنها ركعتان في كل ركعة قيامان وركوعان وسجدتان وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود وغيرهم وحكاه الشيخ أبو حامد عن عثمان بن عفان وابن عباس وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة : هي ركعتان كالجمعة والصبح وحكى ابن المنذر عن حذيفة وابن عباس أنها ركعتان في كل ركعة ثلاثة ركوعات وعن علي رضي الله عنه خمسة ركوعات في كل ركعة وعن إسحاق أنها تجوز ركوعان في كل ركعة وثلاثة وأربعة ، لأنه ثبت هذا ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه وقال العلاء بن زياد : لا يزال يركع ويقوم ويراقب الشمس حتى تنجلي ، فإذا انجلت سجد ثم صلى ركعة أخرى واحتج لأبي حنيفة وموافقيه بحديث قبيصة الهلالي الصحابي قال { كسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام ثم انصرف وانجلت فقال إنما هذه الآيات يخوف الله بها ، فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة } " رواه أبو داود بإسناد صحيح والحاكم وقال حديث صحيح .

                                      وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال " { كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها ، حتى انجلت } " رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح أو حسن واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المشهورة في الصحيحين وغيرهما بمثل مذهبنا ، وأجابوا عن هذين الحديثين بجوابين ( أحدهما ) أن أحاديثنا أشهر وأصح وأكثر رواة ( والثاني ) أنا نحمل أحاديثنا على الاستحباب [ ص: 68 ] والحديثين على بيان الجواز ، هكذا ذكر هذين الجوابين أبو إسحاق المروزي والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وسائر الأصحاب ، ففيه تصريح منهم بأنه لو صلاها ركعتين كسنة الظهر ونحوها صحت صلاته للكسوف وكان تاركا للأفضل




                                      الخدمات العلمية