الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم الآية: 95. يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة. ويحتمل دخول الحرم، يقال: أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال: أبحر إذا أتى بحرا، وأعرق إذا أتى العراق، واتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر:


قتل الخليفة محرما



والوجه الثالث على خلاف الإجماع، فلا يكون مرادا بالآية، فبقي الوجهان الأولان. إذا تبين ذلك فقد قال تعالى: لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ، [ ص: 104 ] فدل مطلق الصيد على تحريم اصطياد كل ما يصطاد من بري أو بحري، لولا ما استثناه من البحري. ولما قال: لا تقتلوا، أمكن أن يكون تنبيها على أن ذبيحة المحرم ميتة، لأن الله تعالى سماها قتلا، والمقتول لا يؤكل، وإنما المأكول هو الذي يذبح. ويحتمل أن يقال: إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد، فهذا إن كان فرقا، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع، وليس يظهر من عرف الشرع هذا، فإن الله تعالى يقول: وما ذبح على النصب وكان ذلك محرما، ويقال: ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.

نعم; الذي يقطع منه الحلق واللبة يسمى في العرف والعادة مذبوحا سواء كان مباحا أو محرما، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد، يسمى مقتولا، ويسمى ذلك الفعل قتلا، قال الله تعالى: والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب .

وكل ذلك محرم.

ومنه ما سمي مذبوحا، ومنه ما سماه موقوذا، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي ، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلا، فقال: إذا قال: لله تعالى علي أن أذبح ولدي، لزمه ذبح شاة. وإذا قال: لله علي أن أقتل، لا يلزمه شيء. وإذا ثبت هذا، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها. [ ص: 105 ] وذكر القعني عن مالك: ورد في الخبر: والكلب العقور، والكلب العقور هو الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم بجبلته، مثل الأسد والنمر والذئب، والكلب العقور، وما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والهرة والثعلب، فلا يقتلهن المحرم، فإن قتل شيئا من ذلك فداه.

واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم: الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور على اختلاف منهم، وفي بعضها: هن فواسق" ، وروي عن أبي هريرة قال: الكلب العقور: الأسد .

ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب، فقال: أكلك كلب الله فأكله الأسد . وقيل: إن الكلب العقور هو الذئب، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده غير معتبر، ولكنه إذا كان موصوفا به كفى، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعا عن نفسه فلا ضمان.

واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائما مقام ما يظهر منه، [ ص: 106 ] فهذا صحيح على ما هو قول مالك، ويظهر الكلام فيه على أبي حنيفة، وذكر الرازي فصولا في منع التعليل، كرهنا ذكرها لسقاطتها، ولكونها أقل مما يحتاج إلى ذكرها وتكلف الجواب عنها، فاعلمه.. إلا أن الإشكال في السباع التي لا تعدو ولا تضرى.

واعلم أن ما لا يعدو منها فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي ، كالضبع والثعلب، يبقى ذلك ما لا يسمى صيدا مثل الهرة الأهلية، وهي غير داخلة في عموم الآية. وبعد، فإنه تعالى لما قال: أحل لكم صيد البحر ، وقابله بصيد البر فقال: وحرم عليكم صيد البر ، علم أنه إنما حرم للأكل، فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال: ما دمتم حرما، فمد التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرما، ويجعل في مقابلته صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.

التالي السابق


الخدمات العلمية