الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 200 ] فصل والنهي في العصر معلق بصلاة العصر : فإذا صلاها لم يصل بعدها وإن كان غيره لم يصل وما لم يصلها فله أن يصلي وهذا ثابت بالنص والاتفاق ; فإن النهي معلق بالفعل .

                وأما الفجر : ففيها نزاع مشهور وفيه عن أحمد روايتان : قيل : إنه معلق بطلوع الفجر فلا يتطوع بعده بغير الركعتين وهو قول طائفة من السلف ومذهب أبي حنيفة . قال النخعي كانوا يكرهون التطوع بعد الفجر .

                وقيل : إنه معلق بالفعل كالعصر . وهو قول الحسن والشافعي فإنه لم يثبت النهي إلا بعد الصلاة كما في العصر . وأحاديث النهي تسوي بين الصلاتين كما في الصحيحين عن ابن عباس قال : " شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي عمر : { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تشرق الشمس وبعد العصر حتى تغرب } [ ص: 201 ] وكذلك فيهما عن أبي هريرة ولفظه : { وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب } وفيهما عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس } ولمسلم { لا صلاة بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر } وفي صحيح مسلم حديث عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول الله : أخبرني عن الصلاة قال : { صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة محضورة مشهودة حتى يستقل الظل بالرمح ثم اقصر عن الصلاة فإنه حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار } . والأحاديث المختصة بوقت الطلوع والغروب وبالاستواء : حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا بدا حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تبرز وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب } هذا اللفظ لمسلم وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : { ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن . موتانا : حين تطلع [ ص: 202 ] الشمس بازغة حتى ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب } .

                ووقت الزوال ليس في عامة الأحاديث ولم يذكر حديثه البخاري ; لكن رواه مسلم من حديث عقبة بن عامر ومن حديث عمرو بن عبسة وتابعهما الصنابحي . وعلى هذه الثلاثة اعتمد أحمد ولما ذكر له الرخصة في الصلاة نصف النهار يوم الجمعة قال : في حديث النبي صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجه : حديث عقبة بن عامر وحديث عمرو بن عبسة وحديث الصنابحي . والخرقي لم يذكره في أوقات النهي بل قال : ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض ويركع للطواف وإن كان في المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلى في كل وقت نهي عن الصلاة فيه وهو بعد الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب .

                وهذا يقتضي أنه ليس وقت نهي إلا هذان ويقتضي أن ما أباحه يفعل في أوقات النهي كإحدى الروايتين ويقتضي أن النهي معلق بالفعل فإنه قال : بعد الفجر حتى تطلع الشمس ولم يقل الفجر ولو كان النهي من حين طلوع الفجر لاستثنى الركعتين بل استثنى الفرض والنفل . وهذه ألفاظ الرسول فإنه نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس كما نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس .

                [ ص: 203 ] ومعلوم أنه لو أراد الوقت لاستثنى ركعتي الفجر والفرض كما ورد استثناء ذلك في ما نهى عنه حيث قال : { لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين } فلما لم يذكر ذلك في الأحاديث علم أنه أراد فعل الصلاة كما جاء مفسرا في أحاديث صحيحة . ولأنه يمتنع أن تكون أوقات الصلاة المكتوبة فرضها وسنتها وقت نهي وما بعد الفجر وقت صلاة الفجر سنتها وفرضها فكيف يجوز أن يقال : إن هذا وقت نهي ؟ وهل يكون وقت نهي سن فيه الصلاة دائما بلا سبب ؟ وأمر بتحري الصلاة فيه ؟ هذا تناقض مع أن هذا الوقت جعل وقتا للصلاة إلى طلوع الشمس ليس كوقت العصر الذي جعل آخر الوقت فيه إذا اصفرت الشمس .

                والنهي هو لأن الكفار يسجدون لها وهذا لا يكون من طلوع الفجر ولهذا كان الأصل في النهي عند الطلوع والغروب كما في حديث ابن عمر لكن نهى عن الصلاة بعد الصلاتين سدا للذريعة فإن المتطوع قد يصلي بعدهما حتى يصلي وقت الطلوع والغروب . والنهي في هذين أخف ولهذا كان يداوم على الركعتين بعد العصر حتى قبضه الله . فأما قبل صلاة الفجر فلا وجه للنهي لكن لا يسن ذلك الوقت إلا الفجر سنتها وفرضها .

                ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ويوتر ثم إذا طلع الفجر صلى الركعتين ثم صلى الفرض وكان يضطجع أحيانا [ ص: 204 ] ليستريح إما بعد الوتر وإما بعد ركعتي الفجر وكان إذا غلبه من الليل نوم أو وجع صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة بدل قيامه من الليل ولم يكن يقضي ذلك قبل صلاة الفجر ; لأنه لم يكن يتسع لذلك فإن هذه الصلاة فيها طول وكان يغلس بالفجر . وفي الصحيح { من نام عن حزبه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل } ومعلوم أنه لو أمكن قراءة شيء منه قبل صلاة الفجر كان أبلغ لكن إذا قرأه قبل الزوال كتب له كأنما قرأه من الليل فإن هذا الوقت تابع لليلة الماضية ولهذا يقال فيما قبل الزوال : فعلناه الليلة . ويقال بعد الزوال : فعلناه البارحة وهو وقت الضحى وهو خلف عن قيام الليل .

                ولهذا { كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام عن قيامه قضاه من الضحى فيصلي اثنتي عشرة ركعة } . وقد جاء هذا عن عمر وغيره من الصحابة في قوله : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } . فما بعد طلوع الفجر إنما سن للمسلمين السنة الراتبة وفرضها الفجر وما سوى ذلك لم يسن ولم يكن منهيا عنه إذا لم يتخذ سنة كما في الحديث الصحيح : { بين كل أذانين صلاة بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء } . كراهية أن يتخذها الناس سنة .

                [ ص: 205 ] فهذا فيه إباحة الصلاة بين كل أذانين كما { كان الصحابة يصلون ركعتين بين أذاني المغرب والنبي صلى الله عليه وسلم يراهم ويقرهم على ذلك } فكذلك الصلاة بين أذاني العصر والعشاء كذلك بين أذاني الفجر والظهر لكن بين أذاني الفجر الركعتان سنة بلا ريب وما سواها يفعل ولا يتخذ سنة فلا يداوم عليه ويؤمر به جميع المسلمين كما هو حال السنة فإن السنة تعم المسلمين ويداوم عليها كما أنهم كلهم مسنون لهم ركعتا الفجر والمداومة عليها .

                فإذا قيل : لا سنة بعد طلوع الفجر إلا ركعتان فهذا صحيح وأما النهي العام فلا . والإنسان قد لا يقوم من الليل فيريد أن يصلي في هذا الوقت وقد استحب السلف له قضاء وتره بل وقيامه من الليل في هذا الوقت وذلك عندهم خير من أن يؤخره إلى الضحى .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية