الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في البول قائما وغيره

                                                                                                          حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال دخل أعرابي المسجد فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به حتى علا الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتركوه فتركوه فبال ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب من ماء فصب على ذلك المكان

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          31 - ما جاء في البول قائما

                                                                                                          144 141 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) مرسل وصله البخاري من طريق ابن المبارك ، ومسلم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، والشيخان معا من طريق يحيى القطان ، ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال : سمعت أنس بن مالك قال : ( دخل أعرابي ) حكى أبو بكر التاريخي عن عبد الله بن رافع المدني أن هذا الأعرابي هو الأقرع بن حابسالتميمي ، لكن أخرج أبو موسى المدني في الصحابة من طريق محمد بن عمرو عن عطاء عن سليمان بن يسار أنه ذو الخويصرة اليماني وكان رجلا جافيا وهو مرسل وفيه راو مبهم ، وأخرجه أبو زرعة الدمشقي بهذا السند وقال : وفيه ذو الخويصرة التميمي ، والتميمي هو حرقوص بن زهير الذي صار بعد ذلك من رءوس الخوارج وقد فرق بعضهم بينه وبين اليماني .

                                                                                                          ونقل عن أبي الحسين بن فارس أنه عيينة بن حصن والعلم عند الله تعالى قاله الحافظ ، وتوقف الحافظ ولي الدين في أنه ذو الخويصرة اليماني فقال : كيف يستقيم ذلك وذو الخويصرة منافق وهذا مسلم حسن الإسلام لرواية ابن ماجه وابن حبان عن أبي هريرة ففيها فقال الأعرابي بعد أن فقه في الإسلام فقام إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي فلم يؤنبني ولم يسبني وهو يدل على سلامة صدره وعدم إحاطته بهذا الحكم حين صدر منه ما صدر لا على نفاقه ، وكذا يدل عليه رواية الدارقطني عن ابن مسعود : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - شيخ كبير فقال : يا محمد متى الساعة ؟ قال : " ما أعددت لها ؟ " قال : لا والذي بعثك بالحق ما أعددت لها من كبير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله ، قال : " فإنك مع من أحببت " ، قال : فذهب الشيخ فأخذه البول في المسجد فمر عليه الناس فأقاموه فقال - صلى الله عليه وسلم - : [ ص: 252 ] " دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة ، فصبوا على بوله الماء " .

                                                                                                          قال ابن العربي : فبين أن البائل في المسجد هو السائل عن الساعة المشهود له بالجنة انتهى .

                                                                                                          ( المسجد ) النبوي زاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره في أوله أنه صلى ركعتين ثم قال : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لقد تحجرت واسعا " فلم يلبث أن بال في المسجد .

                                                                                                          وأخرجه أبو داود والنسائي والبخاري من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة بقصة الدعاء فقط .

                                                                                                          وأخرجه ابن ماجه وابن حبان بتمامه من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وتحجرت أي ضيقت من رحمة الله ما وسعته إذ خصصتني وخصصت بها نفسك دون غيرنا مع أنها تسع كل شيء فهو تحجر تفعل من الحجر المنع هكذا فسره الجمهور .

                                                                                                          ( فكشف عن فرجه ليبول فصاح الناس به ) زاجرين له ( حتى علا الصوت ) ارتفع ، وفي رواية : فزجره الناس ، وأخرى : فتناوله الناس ، وأخرى : فثار إليه الناس ، وأخرى : فقاموا إليه ، وكلها في البخاري ، وللإسماعيلي فأراد أصحابه أن يمنعوه ، ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس فقال الصحابة : مه مه .

                                                                                                          ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتركوه ) يبول لئلا يؤدي قطع البول إلى ضرر كبير يحصل له وقد يغلبه قبل الخروج من المسجد فيؤدي إلى انتشار النجاسة فيه ، وتنجيس مكان واحد أخف من تنجيس أماكن ، وأيضا قد يغلبه فيخرج في ثيابه فيؤدي إلى تنجيسها وتنجيس بدنه ذكره المازري .

                                                                                                          وفي حديث أبي هريرة عند البخاري : فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " ( فتركوه فبال ) في طائفة المسجد كما في البخاري أي في قطعة من أرضه ، والطائفة القطعة من الشيء ولمسلم : ناحية من المسجد

                                                                                                          ( ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) لما قضى الأعرابي بوله ( بذنوب ) بفتح الذال المعجمة قال الخليل : هو الدلو ملأى ماء ، وقال ابن فارس : الدلو العظيمة ، وقال ابن السكيت : فيها ماء قريب من الملء ولا يقال لها وهي فارغة ذنوب وقال ( من ماء ) مع أن الذنوب من شأنها ذلك لأنه لفظ مشترك بينه وبين الفرس الطويل وغيرهما .

                                                                                                          ( فصب على ذلك المكان ) زاد مسلم من طريق إسحاق بن أبي طلحة عن أنس : " ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه فقال له : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن " ، قال الحافظ : وظاهره الحصر في الثلاثة لكن الإجماع على أن مفهوم الحصر منه غير معمول به ، ولا ريب أن فعل غير المذكورات وما في معناها فيه خلاف الأولى ، وفي الحديث من الفوائد أن الاحتراز من النجاسة كان مقررا في نفوس الصحابة ولذا بادروا [ ص: 253 ] بالإنكار بحضوره - صلى الله عليه وسلم - قبل استئذانه ولما تقرر عندهم أيضا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفيه جواز التمسك بالعموم حتى يظهر الخصوص .

                                                                                                          قال ابن دقيق العيد : والظاهر تحتم التمسك ثم احتمال التخصيص عند المجتهد ، ولا يجب التوقف عن العمل بالعموم لذلك لأن علماء الأمصار ما برحوا يفتون بما بلغهم من غير بحث عن التخصيص وبهذه القصة أيضا ، إذ لم ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليهم ولم يقل لهم لم نهيتم الأعرابي بل أمرهم بالكف عنه للمصلحة الراجحة وهي دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحين بترك أيسرهما ، وفيه المبادرة إلى إزالة المفاسد عند زوال المانع لأمرهم عند فراغه بصب الماء ، وتعين الماء لإزالة النجاسة ، إذ لو كفى الجفاف بالريح والشمس لما طلب الدلو وأنه لا يشترط حفرها مطلقا خلافا للحنفية في أنه لا بد من حفرها إذا كانت صلبة وإلقاء التراب ; لأن الماء لم يغمر أعلاها وأسفلها بخلاف الرخوة التي يغمرها الماء فلا حفر ، وفيه رأفة المصطفى وحسن خلقه وتعظيم المسجد وتنزيهه عن الأقذار .




                                                                                                          الخدمات العلمية