الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فوائد ) الأولى قال الإمام بن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة : ومما كان الجاهلية يتطيرون به ويتشاءمون منه العطاس كما يتشاءمون بالبوارح والسوانح .

قال رؤبة بن العجاج يصف فلاة :

قطعتها ولا أهاب العطاسا

وقال امرؤ القيس :

وقد أغتدي قبل العطاس بهيكل     شديد مسد الجيب نعم المنطق

أراد أنه كان تنبه للصيد قبل أن يتنبه الناس من نومهم لئلا يسمع عطاسا فيتشاءم به ، وكانوا إذا عطس من يحبونه قالوا له : عمرا وشبابا ، وإذا عطس من يكرهونه قالوا له : وريا وقحابا . والوري كالرمي داء يصيب الكبد فيفسدها ، والقحاب كالسعال وزنا ومعنى ، فكأن الرجل إذا سمع عطاسا فتشاءم به يقول بك لا بي أي أسأل الله أن يجعل شؤم عطاسك بك لا بي .

وكان تشاؤمهم بالعطسة الشديدة أشد كما يحكى عن بعض الملوك أن مسامرا له عطس عطسة شديدة راعته ، فغضب الملك ، فقال سميره : والله ما تعمدت ذلك ولكن هذا عطاسي ، فقال : والله لئن لم تأتني بمن يشهد لك بذلك لأقتلنك ، فقال أخرجني إلى الناس لعلي أجد من يشهد لي ، فأخرج وقد وكل به الأعوان ، فوجد رجلا فقال : نشدتك بالله إن كنت سمعت عطاسي يوما فلعلك تشهد لي به عند الملك ، فقال : نعم أنا أشهد لك فنهض معه [ ص: 446 ] فقال أيها الملك أنا أشهد أن هذا الرجل يوما عطس فطار ضرس من أضراسه ، فقال له الملك عد إلى حديثك ومجلسك . فلما جاء الله بالإسلام ، وأبطل برسوله ما كان عليه الجاهلية الطغام ، من الضلال والآثام ، نهى أمته عن التشاؤم والتطير ، وشرع لهم أن يجعلوا مكان الدعاء على العاطس بالمكروه دعاء له بالرحمة .

ولما كان الدعاء على العاطس نوعا من الظلم والبغي جعل الدعاء له بلفظ الرحمة المنافي للظلم ، وأمر العاطس أن يدعو لسامعه ومشمته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال فيقول : يغفر الله لنا ولكم ، أو يهديكم الله ويصلح بالكم .

فأما الدعاء بالهداية فلما أنه اهتدى إلى طاعة الرسول ، ورغب عما كان عليه الجاهلية ، فدعا له يثبته الله عليها ويهديه إليها ، وكذلك الدعاء بإصلاح البال وهي كلمة جامعة له صلاح شأنه كله ، وهي من باب الخيرات . ولما دعا لأخيه بالرحمة فناسب أن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال .

وأما الدعاء بالمغفرة فجاء بلفظ يشمل العاطس والمشمت فيقول يغفر الله لنا ولكم ، ليتحصل من مجموع دعوى العاطس والمشمت لهما المغفرة والرحمة معا . فصلوات الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة .

قال ولأجل هذا والله أعلم لم يؤمر بتشميت من لم يحمد الله . فالدعاء له بالرحمة نعمة فلا يستحقها من لم يحمد الله ولم يشكره على هذه النعمة ، ويتأسى بأبيه آدم فإنه لما نفخت فيه الروح وبلغت إلى خياشيمه عطس فألهمه ربه تبارك وتعالى أن نطق بحمده فقال الحمد لله ، فقال الله سبحانه : يرحمك الله يا آدم ، فصارت تلك سنة العاطس . فمن لم يحمد الله لم يستحق هذه الدعوة .

ولما سبقت هذه الكلمة لآدم عليه السلام قبل أن يصيبه ما أصابه كان مآله إلى الرحمة ، وكان ما جرى عارضا وزال ، فإن الرحمة سبقت العقوبة وغلبت الغضب . انتهى ملخصا والله أعلم .

وقد علمنا أن أول نفس خرج من أبينا آدم العطاس ، وأول كلمة جرت على لسانه الشريف حمد الله جل شأنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية