الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3492 ) مسألة ; قال : ( والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه ، فيصطلحان على بعضه ، فإن كان يعلم ما عليه ، فجحده ، فالصلح باطل ) وجملة ذلك ، أن الصلح على الإنكار صحيح . وبه قال مالك ، وأبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح ; لأنه عاوض على ما لم يثبت له ، فلم تصح المعاوضة كما لو باع مال غيره ، ولأنه عقد معاوضة خلا عن العوض في أحد جانبيه ، فبطل ، كالصلح على حد القذف .

                                                                                                                                            ولنا ، عموم قوله : عليه السلام { الصلح بين المسلمين جائز } . فيدخل هذا في عموم قوله . فإن قالوا : فقد قال : { إلا صلحا أحل حراما } . وهذا داخل فيه ; لأنه لم يكن له أن يأخذ من مال المدعى عليه ، فحل بالصلح . قلنا : لا نسلم دخوله فيه ، ولا يصح حمل الحديث على ما ذكروه لوجهين ; أحدهما ، أن هذا يوجد في الصلح بمعنى البيع ، فإنه يحل لكل واحد منهما ما كان محرما عليه قبله ، وكذلك الصلح بمعنى الهبة ، فإنه يحل للموهوب له ما كان حراما عليه ، الإسقاط يحل له ترك أداء ما كان واجبا عليه .

                                                                                                                                            الثاني ، أنه لو حل به المحرم ، لكان الصلح صحيحا ، فإن الصلح الفاسد لا يحل الحرام ، وإنما معناه ما يتوصل به إلى تناول المحرم مع بقائه على تحريمه ، كما لو صالحه على استرقاق حر ، أو إحلال بضع محرم ، أو [ ص: 309 ] صالحه بخمر أو خنزير . وليس ما نحن فيه كذلك .

                                                                                                                                            وعلى أنهم لا يقولون بهذا ، فإنهم يبيحون لمن له حق يجحده غريمه ، أن يأخذ من ماله بقدره أو دونه ، فإذا حل له ذلك من غير اختياره ولا علمه ، فلأن يحل برضاه وبذله أولى ، وكذلك إذا حل مع اعتراف الغريم ، فلأن يحل مع جحده وعجزه عن الوصول إلى حقه إلا بذلك أولى ، ولأن المدعي هاهنا يأخذ عوض حقه الثابت له ، والمدعى عليه يدفعه لدفع الشر عنه ، وقطع الخصومة ، ولم يرد الشرع بتحريم ذلك في موضع ، ولأنه صلح يصح مع الأجنبي ، فصح مع الخصم كالصلح مع الإقرار . يحققه أنه إذا صح مع الأجنبي مع غناه عنه ، فلأن يصح مع الخصم مع حاجته إليه أولى .

                                                                                                                                            وقولهم : إنه معاوضة . قلنا : في حقهما أم في حق أحدهما ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم ; وهذا لأن المدعي يأخذ عوض حقه من المنكر لعلمه بثبوت حقه عنده ، فهو معاوضة في حقه ، والمنكر يعتقد أنه يدفع المال لدفع الخصومة واليمين عنه ، ويخلصه من شر المدعي ، فهو أبرأ في حقه ، وغير ممتنع ثبوت المعاوضة في حق أحد المتعاقدين دون الآخر ، كما لو اشترى عبدا شهد بحريته ، فإنه يصح ، ويكون معاوضة في حق البائع واستنقاذا له من الرق في حق المشتري ، كذا هاهنا .

                                                                                                                                            إذا ثبت هذا ، فلا يصح هذا الصلح ، إلا أن يكون المدعي معتقدا أن ما ادعاه حق ، والمدعى عليه يعتقد أنه لا حق عليه ، فيدفع إلى المدعي شيئا افتداء ليمينه ، وقطعا للخصومة ، وصيانة لنفسه عن التبذل ، وحضور مجلس الحاكم ، فإن ذوي النفوس الشريفة والمروءة يصعب عليهم ذلك ، ويرون دفع ضررها عنهم من أعظم مصالحهم ، والشرع لا يمنعهم من وقاية أنفسهم وصيانتها ، ودفع الشر عنهم ببذل أموالهم ، والمدعي يأخذ ذلك عوضا عن حقه الثابت له ، فلا يمنعه الشرع من ذلك أيضا ، سواء كان المأخوذ من جنس حقه ، أو من غير جنسه ، بقدر حقه أو دونه ، فإن أخذ من جنس حقه بقدره فهو مستوف له ، وإن أخذ دونه ، فقد استوفى بعضه وترك بعضه ، وإن أخذ من غير جنس حقه فقد أخذ عوضه .

                                                                                                                                            ولا يجوز أن يأخذ من جنس حقه أكثر مما ادعاه ; لأن الزائد لا مقابل له ، فيكون ظالما بأخذه . وإن أخذ من غير جنسه جاز ، ويكون بيعا في حق المدعي ; لاعتقاده أخذه عوضا ، فيلزمه حكم إقراره . فإن كان المأخوذ شقصا في دار أو عقار ، وجبت فيه الشفعة ، وإن وجد به عيبا فله رده ، والرجوع في دعواه ، ويكون في حق المنكر بمنزلة الإبراء ، لأنه دفع المال افتداء ليمينه ، ودفعا للضرر عنه ، لا عوضا عن حق يعتقده فيلزمه أيضا حكم إقراره . فإن وجد بالمصالح عنه عيبا ، لم يرجع به على المدعي ; لاعتقاده أنه ما أخذ عوضا . وإن كان شقصا لم تثبت فيه الشفعة ; لأنه يعتقده على ملكه ، لم يزل ، وما ملكه بالصلح .

                                                                                                                                            ولو دفع المدعى عليه إلى المدعي ما ادعاه أو بعضه ، لم يثبت فيه حكم البيع ولا تثبت فيه الشفعة ; لأن المدعي يعتقد أنه استوفى بعض حقه ، وأخذ عين ماله ، مسترجعا لها ممن هي عنده ، فلم يكن بيعا ، كاسترجاع العين المغصوبة ، فأما إن كان أحدهما كاذبا ، مثل أن يدعي المدعي شيئا يعلم أنه ليس له ، وينكر المنكر حقا يعلم أنه عليه ، فالصلح باطل في الباطن ; لأن المدعي إذا كان كاذبا ، فما يأخذه أكل مال بالباطل ، أخذه بشره وظلمه ودعواه الباطلة ، لا عوضا عن حق له ، فيكون حراما عليه ، كمن خوف رجلا بالقتل حتى أخذ ماله ، وإن كان صادقا ، والمدعى عليه يعلم صدقه وثبوت حقه ، فجحده لينتقص حقه ، أو يرضيه عنه بشيء فهو هضم [ ص: 310 ] للحق ، وأكل مال بالباطل ، فيكون ذلك حراما ، والصلح باطل ، ولا يحل له مال المدعي بذلك .

                                                                                                                                            وقد ذكره الخرقي في قوله " وإن كان يعلم ما عليه فجحده ، فالصلح باطل " . يعني في الحقيقة ، وأما الظاهر لنا فهو الصحة ; لأننا لا نعلم باطن الحال ، وإنما ينبني الأمر على الظواهر ، والظاهر ، من المسلم السلامة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية