الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا لم تجر حكاية هذا القول على طريقة حكاية المقاولات التي تحكى بدون عطف على حسن الاستعمال في حكاية المقاولات كما استقريناه من استعمال الكتاب المجيد وقدمناه في قوله وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة الآية ، فجيء بحرف العطف في حكاية هذه المقالة مع أن المستضعفين جاوبوا بها قول الذين استكبروا أنحن صددناكم الآية لنكتة دقيقة ، وهي التنبيه على أن مقالة المستضعفين هذه هي في المعنى تكملة لمقالتهم تلقفها الذين استكبروا فابتدروها بالجواب للوجه الذي ذكرناه هنالك بحيث لو انتظروا تمام كلامهم وأبلغوهم ريقهم لحصل ما فيه إبطال كلامهم ولكنهم قاطعوا [ ص: 208 ] كلامهم من فرط الجزع أن يؤاخذوا بما يقوله المستضعفون .

وحكي قولهم هذا بفعل المضي لمزاوجة كلام الذين استكبروا لأن قول الذين استضعفوا هذا بعد أن كان تكملة لقولهم الذي قاطعه المستكبرون ، انقلب جوابا عن تبرؤ المستكبرين من أن يكونوا صدوا المستضعفين عن الهدى ، فصار لقول المستضعفين موقعان يقتضي أحد الموقعين عطفه بالواو ، ويقتضي الموقع الآخر قرنه بحرف بل وبزيادة مكر الليل والنهار ، وأصل الكلام : يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين إذ تأمروننا بالليل والنهار أن نكفر بالله الخ . فلما قاطعه المستكبرون بكلامهم أقحم في كلام المستضعفين حرف " بل " إبطالا لقول المستكبرين " بل كنتم مجرمين " ، وبذلك أفاد تكملة الكلام السابق والجواب عن تبرؤ المستكبرين ، ولو لم يعطف بالواو لما أفاد إلا أنه جواب عن كلام المستكبرين فقط ، وهذا من أبدع الإيجاز .

وبل للإضراب الإبطالي أيضا إبطالا لمقتضى القصر في قولهم أنحن صددناكم عن الهدى فإنه واقع في حيز نفي لأن الاستفهام الإنكاري له معنى النفي .

و مكر الليل والنهار من الإضافة على معنى " في " ، وهنالك مضاف إليه ومجرور محذوفان دل عليهما السياق ، أي مكركم بنا .

وارتفع " مكر " على الابتداء . والخبر محذوف دل عليه مقابلة هذا الكلام بكلام المستكبرين إذ هو جواب عنه . فالتقدير : بل مكركم صدنا ، فيفيد القصر ، أي ما صدنا إلا مكركم ، وهو نقض تام لقولهم أنحن صددناكم عن الهدى وقولهم " بل كنتم مجرمين " .

والمكر : الاحتيال بإظهار الماكر فعل ما ليس بفاعله ليغر المحتال عليه ، وتقدم وفي قوله تعالى ومكروا ومكر الله في آل عمران .

وإطلاق المكر على تسويلهم لهم البقاء على الشرك ، باعتبار أنهم يموهون عليهم ويوهمونهم أشياء كقولهم : إنه دين آبائكم وكيف تأمنون غضب الآلهة عليكم إذا [ ص: 209 ] تركتم دينكم ونحو ذلك . والاحتيال لا يقتضي أن المحتال غير مستحسن الفعل الذي يحتال لتحصيله .

والمعنى : ملازمتهم المكر ليلا ونهارا ، وهو كناية عن دوام الإلحاح عليهم في التمسك بالشرك . و إذ تأمروننا ظرف لما في مكر الليل والنهار من معنى صدنا أي حين تأمروننا أن نكفر بالله .

والأنداد : جمع ند ، وهو المماثل ، أي نجعل لله أمثالا في الإلهية .

وهذا تطاول من المستضعفين على مستكبريهم لما رأوا قلة غنائهم عنهم ، واحتقروهم حين علموا كذبهم وبهتانهم .

وقد حكي نظير ذلك في قوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا الآيتين في سورة البقرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية