الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم

                                                                                                                                                                                                ولما عدد النعم في نفسه: أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال: فلينظر الإنسان إلى طعامه إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره أنا صببنا الماء يعني الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام، وقرأ الحسين بن علي رضي الله عنهما: "أني صببنا" بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. وشققنا: من شق الأرض بالنبات. ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على البقر; وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                [ ص: 317 ] والقضب: الرطبة. والمقضاب: أرضه، سمي بمصدر قضبه إذا قطعه; لأنه يقضب مرة بعد مرة. وحدائق غلبا يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا، أي: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب; فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب [من الكامل]:


                                                                                                                                                                                                يمشي بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسين من الكحيل جلالا

                                                                                                                                                                                                والأب: المرعى، لأنه يؤب أي يؤم وينتجع. والأب والأم أخوان قال [من الرمل]:


                                                                                                                                                                                                جذمنا قيس ونجد دارنا     ولنا الأب به والمكرع

                                                                                                                                                                                                وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا علم لي به. وعن عمر رضي الله عنه: أنه قرأ هذه الآية فقال: كل هذا قد عرفنا، فما الأب؟ ثم رفض عصا كانت بيده وقال: [ ص: 318 ] هذا لعمر الله التكلف، وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب، ثم قال: اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب، وما لا فدعوه. فإن قلت: فهذا يشبه النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. قلت: لم يذهب إلى ذلك، ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل، وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا عندهم; فأراد أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه واستدعاء شكره، وقد علم من فحوى الآية أن الأب بعض ما أنبته الله للإنسان متاعا له أو لأنعامه; فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر لله -على ما تبين لك ولم يشكل- مما عدد من نعمه، ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له، واكتف بالمعرفة الجميلة إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية