الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به إن هذه الآية تبين مآل الذين يموتون وهم كفار، أي أنهم يستمرون على كفرهم حتى يلقوا ربهم، فالواو في قوله سبحانه: " وهم كفار " واو الحال، وهي تفيد أنهم ماتوا وهم على حال لهم مستمرة ملازمة لم تفارقهم، وهي الكفر والضلال، وإن أولئك في اليوم الآخر يلقون جزاءهم على ما قدموا من سيئات وجحود بالحق موفورا كاملا، وذلك الجزاء ذو شطرين، أحدهما سلبي والآخر إيجابي، أما السلبي فهو أن كل ما عملوا من خير وأنفقوا من مال لا يكافؤون عليه، كما قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا والسبب في فقد الجزاء عليه أن أساس الجزاء في الدين النية، والنية لا تكون سليمة إلا إذا كان فعل الخير قد قصد به وجه الله سبحانه وتعالى، وذلك لا يكون ممن لا يذعن لدين الله؛ لأنه لو طلب وجه الله لأجاب نداءه، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله: فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا أي: لن يقبل منهم أي إنفاق، ولو كان بمقدار ما يملأ الأرض من ذهب، فمهما يفعلوا من عمل، هو في ذاته خير، فقد أفسدوه بنياتهم الآثمة، وتمردهم على الحق إذ دعوا إليه.

                                                          والجزاء الإيجابي هو العقاب الذي لا يكون منه مناص ولو بفدية مهما كبرت أو عظمت، كما قال تعالى مخاطبا المنافقين: فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير [ ص: 1313 ] ، وقد أشار إلى هذا العذاب بقوله سبحانه: ولو افتدى به أي: لو افتدى نفسه من عذاب الآخرة بمثل الذهب الذي يملأ الأرض. والواو هنا تفيد أنه لا يقبل منه أي إنفاق يقدمه ولو كان ذلك الإنفاق قدمه ليفتدي به نفسه من عذاب الله. ثم بين سبحانه العذاب بقوله تعالى: أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين أي: أولئك الذين ماتوا وهم كفار بسبب الكفر الذي لازموه حتى موتهم، لهم عذاب مؤلم شديد الإيلام مستمر، وليس لهم ناصر، و (من ) هنا لاستغراق النفي، أي: ليس لهم أي ناصر مهما يكن، فمن كانوا يتخذونهم شفعاء لا يشفعون لهم، والرسل الذين كانوا يتعلقون بهم لا يعرفونهم، ولا نجاة لهم من عذاب الله، لا بفدية يفتدون بها أنفسهم، ولا بناصر ينصرهم من دون الله، وبذلك يكونون حطب جهنم، والنار مأواهم وبئس المصير، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

                                                          وهنا بحث لفظي أثاره إمام اللغة الزمخشري ، وهو: لماذا عبر في الآية السابقة في الخبر من غير فاء، في قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وفي هذه الآية أتى بالفاء فقال: إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل إلى آخره، وقد أجاب عن ذلك بقوله: " قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء، وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك " الفاء " أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب، كما تقول: الذي جاءني له درهم، لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك: فله درهم.

                                                          وإن ذلك الكلام مغزاه أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يبين لهم أن هذا الجزاء نتيجة للعمل، وأنه مسبب عنه؛ لأن الجزاء من جنس الفعل دائما، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وأما في الآية الأولى؛ فلأن عدم قبول التوبة ليس جزاء، إذ معناه عدم وجود توبة صالحة للقبول، أجرى القول مجرى الإخبار كأنه وصف ملازم لحالهم، أو هو حال أخرى من أحوالهم،

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية