الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الحوادث التي كانت سنة سبع من مولده صلى الله عليه وسلم

من ذلك: كفالة عبد المطلب له:

أخبرنا محمد بن أبي طاهر البزاز قال: أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال: [ ص: 274 ]

أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال:

حدثنا محمد بن سعد قال: حدثنا محمد بن عمر بن واقد قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: أخبرني الزهري .

قال: وحدثني عبد الله بن جعفر ، عن عبد الواحد بن حمزة ، عن عبد الله .

قال:

وحدثنا هاشم بن عاصم الأسلمي ، عن المنذر بن جهم قال:

وأخبرنا معمر ، عن أبي نجيح ، عن مجاهد قال:

وأخبرنا عبد الرحمن بن عبد العزيز ، عن أبي الحويرث قال:

وأخبرني ابن أبي سبرة ، عن سلمان بن سحيم ، عن نافع بن جبير - دخل حديث بعضهم في بعض - قالوا:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون مع أمه آمنة بنت وهب ، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده ، وكان يقربه منه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا وإذا نام وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني ، إنه ليؤنس ملكا .

وقال قوم من مدلج لعبد المطلب: احتفظ به ، فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه . فقال عبد المطلب لابنه أبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء ، فكان أبو طالب يحتفظ به .

وقال عبد المطلب: لأم أيمن - وكانت تحضن رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بركة ، لا تغفلي عن ابني ، فإنني وجدته مع غلمان قريبا من السدرة فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة ، وكان عبد المطلب لا يأكل طعاما إلا قال: علي بابني . فيؤتى به إليه . فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله وحياطته . [ ص: 275 ]

ومن ذلك: خروج عبد المطلب برسول الله صلى الله عليه وسلم عن منام رقيقة:

أخبرنا عبد الله بن علي المقرئ ، ومحمد بن ناصر الحافظ قالا: أخبرنا طراد بن محمد قال: أخبرنا علي بن محمد بن بشران قال: أخبرنا الحسن بن صفوان قال:

حدثنا عبد الله بن محمد القرشي قال: أخبرنا زكريا بن يحيى الطائي قال: حدثني زحر بن حصين ، عن جده حميد بن منهب قال: قال عمي عروة بن مضرس .

تحدث مخرمة بن نوفل عن أمه رقيقة ابنة صفي بن هاشم وكانت لدة عبد المطلب قالت: تتابعت على قريش سنون أقحلت الضرع وأدقت العظم . فبينا أنا نائمة اللهم - أو مهمومة - إذا هاتف يصرخ بصوت حمل يقول: يا معشر قريش ، إن هذا النبي المبعوث [فيكم] قد أظلتكم أيامه ، وهذا إبان نجومه فحيهلا بالحيا والخصب ، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما ، أبيض بضا أوطف الأهداب ، سهل الخدين ، أشم العرنين ، له فخر يكظم [عليه] وسنة تهدي إليه فليخلص هو وولده ، وليهبط إليه من كل بطن رجل ، فليسنوا من الماء ، وليمسوا من الطيب ، ثم ليستلموا الركن ، ثم ليرتقوا أبا قبيس ، فليستسق الرجل ، وليؤمن القوم ، فغثتم ما شئتم .

فأصبحت علم الله مذعورة ، وقد اقشعر جلدي ووله عقلي ، واقتصصت رؤياي ، فو الحرمة والحرم ما بقي أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد .

فتتامت إليه رجالات قريش ، فهبط إليه من كل بطن رجل ، فسنوا ومسوا واستلموا ، ثم ارتقوا أبا قبيس وطبقوا جانبيه فما يبلغ سعيهم مهله ، حتى إذا استووا بذروة الجبل قام عبد المطلب ، ومعه رسول الله [صلى الله عليه وسلم وهو] غلام قد أيفع أو كرب ، فقال:

[ ص: 276 ]

"اللهم ساد الخلة ، وكاشف الكربة ، أنت معلم غير معلم ، ومسئول غير مبخل ، وهؤلاء عبادك وإماؤك بغدرات حرمك يشكون إليك سنتهم ، أذهبت الخف والظلف ، اللهم فأمطرنا غيثا مغدقا ممرعا" .

فو الكعبة ما زالوا حتى تفجرت السماء بمائها واكتظ الوادي بثجيجه ، فلسمعت شيخان قريش وجلتها: عبد الله بن جدعان ، وحرب بن أمية ، وهشام بن المغيرة ، يقولون لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء .

أي: عاش بك أهل البطحاء . وفي ذلك تقول رقيقة:


بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا لما فقدنا الحيا واجلوذ المطر     فجاد بالماء جوني له سبل
سحا فعاشت به الأنعام والشجر      [منا من الله بالميمون طائره
وخير من بشرت يوما به مضر]     مبارك الأمر يستسقى الغمام به
ما في الأنام له عدل ولا خطر



ومن الحوادث هذه السنة: خروج عبد المطلب لتهنئة سيف بن ذي يزن بالملك ، وتبشير سيف عبد المطلب بأنه سيظهر رسول الله من نسله:

أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أخبرنا عاصم بن الحسن قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد البراء قال: حدثني يزيد بن رجاء الغنوي قال: حدثني أبو الصهباء أحمد بن محمد العبدي قال: حدثني ابن مزروع الكلبي عن أبيه قال: [ ص: 277 ]

لما ملك سيف بن ذي يزن أرض اليمن وقتل الحبش وأبادهم ، وفدت إليه أشراف العرب ورؤساؤهم ليهنئوه بما ساق الله عز وجل إليه من الظفر ، ووفد [وفد] قريش وكانوا خمسة من عظمائهم: عبد المطلب بن هاشم ، وأمية بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ، وخويلد بن أسد ، ووهب بن عبد مناف بن زهرة فساروا حتى وافوا مدينة صنعاء ، وسيف بن ذي يزن نازل بقصر يسمى غمدان وكان أحد القصور التي بنتها الشياطين لبلقيس بأمر سليمان ، فأناخ عبد المطلب وأصحابه ، واستأذنوا على سيف فأذن لهم ، فدخلوا وهو جالس على سرير من ذهب وحوله أشراف اليمن على كراسي من الذهب وهو متضمخ بالعنبر ، وبصيص المسك يلوح من مفارق رأسه فحيوه بتحية الملك ، ووضعت لهم كراسي الذهب ، فجلسوا عليها إلا عبد المطلب ، فإنه قام ماثلا بين يديه واستأذنه في الكلام ، فقيل له: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فتكلم .

فقال: أيها الملك ، إن الله قد أحلك محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا منيفا وأنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله ، وبسق فرعه في أطيب مغرس وأعذب منبت ، فأنت أيها الملك ربيع العرب الذي إليه الملاذ ، وذروتها الذي إليه المعاد ، وسلفك لنا خير سلف ، وأنت لنا منهم خير خلف ، لن يهلك من أنت خلفه ، ولن يخمل من أنت سلفه ، ونحن أيها الملك أهل حرم الله وسدنة بيت الله ، أوفدنا إليك [ ص: 278 ] الذي أبهجنا من كشف الضر الذي فدحنا ، فنحن وفد التهنئة لا وفد الترزئة فقال سيف: أنتم قريش الأباطح؟ قالوا: نعم .

قال: مرحبا وأهلا ، وناقة ورحلا ومناخا سهلا ، وملكا سمحلا يعطي عطاء جزلا ، قد سمع الملك مقالتكم ، وعرف فضلكم ، فأنتم أهل الشرف والحمد والثناء والمجد فلكم الكرامة ما أقمتم ، والحباء الواسع إذا انصرفتم .

ثم قال لعبد المطلب: أيهم أنت؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم . قال: إياك أردت ، ولك حشدت ، فأنت ربيع الأنام ، وسيد الأقوام ، انطلقوا فانزلوا حتى أدعو بكم ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم ، فأقاموا شهرا لا يدعوهم ، حتى انتبه لهم ذات يوم فأرسل إلى عبد المطلب: ائتني وحدك من بين أصحابك فأتاه فوجده مستخليا لا أحد عنده ، فقربه حتى أجلسه معه على سريره ، ثم قال له: يا عبد المطلب ، إني أريد أن ألقي إليك من علمي سرا لو غيرك [يكون] لم أبح به إليه ، غير أني رأيتك معدنه ، فليكن عندك مصونا حتى يأذن الله عز وجل فيه بأمره ، فإن الله منجز وعده ، وبالغ أمره .

قال عبد المطلب: أرشدك الله أيها الملك .

قال سيف: أنا أجد في الكتب الصادقة ، والعلوم السابقة التي اختزناها لأنفسنا ، وسترناها عن غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما ، فيه شرف الحياة ، وفخر الممات للعرب عامة ، ولرهطك كافة ، ولك خاصة .

فقال عبد المطلب: أيها الملك ، لقد أبت بخير كثير ما آب به وافد ، ولولا هيبة الملك وإعظامه لسألته أن يزيدني من سروره إياي سرورا . [ ص: 279 ]

فقال سيف: نبي يبعث من عقبك ، ورسول من فرعك ، اسمه محمد وأحمد ، وهذا زمانه الذي يولد فيه ، ولعله قد ولد ، يموت أبوه وأمه ، ويكفله جده وعمه ، والله باعثه جهارا ، وجاعل له أنصارا يعز بهم أولياءه ويذل بهم أعداءه ، تخمد عند مولده النيران ، ويعبد الواحد الديان ، ويزجر الكفر والطغيان ، ويكسر اللات والأوثان ، قوله فصل ، وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويبطله .

قال عبد المطلب: علا كعبك ، ودام فضلك ، وطال عمرك ، فهل الملك ساري بإفصاح وتفسير وإيضاح؟

فقال سيف: والبيت ذي الحجب ، والآيات والكتب إنك يا عبد المطلب لجده بلا كذب . فخر عبد المطلب ساجدا فقال: ارفع رأسك ، ثلج صدرك ، وطال عمرك وعلا أمرك ، فهل أحسست شيئا مما ذكرت؟

قال عبد المطلب: نعم أيها الملك ، كان لي ولد كنت [به] معجبا فزوجته كريمة من كرائم قومي تسمى: آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سميته: محمدا وأحمد ، مات أبوه وأمه ، وكفلته أنا وعمه .

قال: [هو] هو لله أبوك ، فاحذر عليه أعداءه ، وإن كان الله لم يجعل لهم عليه سبيلا ، ولولا علمي بأن الموت مجتاحي قبل ظهوره لسرت بخيلي ورجلي حتى أجعل مدينة يثرب [دار ملكي ، فإني أجد في كتب آبائي أن بيثرب] استتباب أمره ، وهم أهل دعوته ونصرته ، وفيها موضع قبره ، ولولا ما أجد من بلوغه الغايات ، وأن أقيه الآفات ، وأن أدفع عنه العاهات ، لأظهرت اسمه ، وأوطأت العرب عقبه وإن أعش فسأصرف ذلك إليه ، قم فانصرف ومن معك من أصحابك . ثم أمر لكل رجل منهم بمائتي بعير وعشرة أعبد من الحبش وعشرة أرطال من الذهب ، وحلتين من البرود ، وأمر [ ص: 280 ] لعبد المطلب بمثل جميع ما أمر لهم ، وقال له: يا عبد المطلب ، إذا شب محمد وترعرع فأقدم علي بخبره . ثم ودعوه وانصرفوا إلى مكة .

وكان عبد المطلب يقول: لا تغبطوني بكرامة الملك إياي دونكم ، وإن كان ذلك جزيلا ، وفضل إحسانه إلي ، وإن كان كثيرا ، اغبطوني بأمر ألقاه إلي فما فيه شرف لي ولعقبي من بعدي فكانوا يقولون له: ما هو؟ فيقول لهم: ستعرفونه بعد حين .

فمكث سيف باليمن عدة أحوال ، وإنه ركب يوما كنحو ما كان يركب للصيد ، وقد كان اتخذ من السودان نفرا يجهزون بين يديه بحرابهم ، فعطفوا عليه يوما فقتلوه ، وبلغ كسرى أنوشروان فرد إليها وهرز وأمره أن لا يدع أسود إلا قتله .

قال مؤلف الكتاب: وقد روي لنا أن هذه الوفاة إلى ابن ذي يزن كانت في سنة ثلاث من مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روينا ذلك عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، والرواية التي ذكرنا آنفا أصح ، لأن في الروايتين يقول عبد المطلب: توفي أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه . وأم رسول الله لم تمت حتى بلغ ست سنين

التالي السابق


الخدمات العلمية