الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          التوحيد لب الإيمان

                                                          قال (تعالى): فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم

                                                          [ ص: 5416 ] الفاء للإفصاح عن شرط؛ وتقديره: إذا كان القرآن هو الحق؛ وهو يدعو إلى التوحيد؛ فلا تدع مع الله إلها آخر؛ و " الدعاء " ؛ هنا: الالتجاء إليه؛ والعبادة؛ أي: لا تعبد مع الله إلها آخر؛ وتلجأ إليه؛ فتكون من المعذبين ؛ أي: فتكون بسبب ذلك من المعذبين؛ الفاء للسببية؛ ولذا نصب الفعل بعدها؛ ولقد كان النهي موجها إلى نبي الوحدانية؛ ليقتدي به غيره؛ وليعلم كل إنسان أن العذاب لاحق بمن يعبد مع الله إلها آخر؛ فقلب العبادة الوحدانية؛ ولب الإيمان ألا يكون مع الله إله آخر.

                                                          بعد ذلك أمر - سبحانه وتعالى - أمرين متعلقين بالدعوة؛ فقال: وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ؛ " العشير " : القرابة القريبة؛ و " الأقربين " ؛ جمع " أقرب " ؛ وهو الأشد قرابة؛ وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه: و " العشير " : أهل الرجل الذين يتكثر بهم؛ أي: يصيرون له بمنزلة العدد الكامل؛ وذلك أن العشرة هي العدد الكامل؛ والمعنى أن العشير الأقارب الذين يعتز بهم؛ ويحس بأنه منهم؛ وأنهم منه؛ إنه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء في كتب السيرة وكتب السنة أنه عندما نزلت هذه الآية داعية إنذار عشيرته؛ صار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفا؛ ودعا قريشا؛ ومنهم من حضر بشخصه؛ ومن لم يحضر بشخصه؛ وبعث من يسمع عنه؛ وقال لهم: " يا بني عبد المطلب؛ يا بني فهر؛ يا بني لؤي: أرأيتم لو أخبرتكم بأن عيرا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم؛ صدقتموني؟ " ؛ قالوا: نعم؛ قال: " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " ؛ دعاهم - عليه السلام - هذه الدعوة؛ وهي أولى الدعوات؛ وكانت الدعوات قبل ذلك دعوات خاصة؛ للزوجة والأهل والأصدقاء؛ فهذه أول دعوة عامة؛ أو شبه عامة وعمومها جزئي على أي حال.

                                                          هذه دعوة من لم يكن مؤمنا؛ وقد أرشده - سبحانه - إلى الرفق بالمؤمنين؛ لأنهم قوام الدعوة؛ وعماد الحق؛ وقد تعرضوا للأذى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال له [ ص: 5417 ] - لتعينهم على الإيمان؛ ويروا الرحمة بجوار الأذى والعذاب -: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ؛ " من " : هنا بيانية؛ والمعنى: اخفض جناحك لمن اتبعك؛ وهم المؤمنون؛ وخفض الجناح فيه استعارة فيها تشبيه؛ فشبه الحاني العطوف على من معه من المؤمنين؛ بالطائر الذي يخفض جناحه ويحوط به فراخه؛ حتى ينضجوا ويستغنوا عن كلاءته؛ وحمايته.

                                                          هذا شأن من أطاعه من عشيرته؛ ومن معه من المؤمنين؛ وقال فيمن عصاه: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ؛ الفاء للإفصاح؛ والضمير في " عصوك " ؛ يعود إلى الأقربين؛ وإلى المؤمنين؛ وربما نميل إلى أن يكون على المؤمنين فقط؛ لأنه أقرب مذكور؛ ولأن خفض الجناح لهم مشروط بأنهم مؤمنون لا يعصون؛ فإن عصوك أيها الرسول فتبرأ منهم؛ فإنك تخفض الجناح لتربيتهم وتهذيبهم؛ وإبقائهم على الحق؛ لا يخرجون عنه؛ فإن خرجوا فتبرأ منهم؛ وقل: إني بريء مما تعملون ويكون فيه عصيان لي؛ ولا يعتمد عليهم في هذا العصيان؛ والاعتماد كله يكون على الله؛ ولذا قال من بعد:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية