الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين اختلف في انتصاب ثمانية على ماذا ؟ فقال الكسائي : بفعل مضمر ، أي : وأنشأ ثمانية أزواج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الأخفش سعيد : هو منصوب على البدل من " حمولة وفرشا " ، وقال الأخفش علي بن سليمان : هو منصوب بكلوا ، أي كلوا لحم ثمانية أزواج ، وقيل : منصوب على أنه بدل من " ما " في مما رزقكم الله ( الأنعام : 142 ) والزوج خلاف الفرد ، يقال : زوج أو فرد ، كما يقال : شفع أو وتر ، فقوله : ثمانية أزواج يعني ثمانية أفراد وإنما سمي الفرد زوجا في هذه الآية لأن كل واحد من الذكر والأنثى زوج بالنسبة إلى الآخر ، ويقع لفظ الزوج على الواحد ، فيقال : هما زوج وهو زوج ، ويقول : اشتريت زوجي حمام : أي ذكرا وأنثى .

                                                                                                                                                                                                                                      والحاصل أن الواحد إذا كان منفردا سواء كان ذكرا أو أنثى ، قيل : له : فرد ، وإن كان الذكر مع أنثى من جنسه قيل : لهما زوج ، ولكل واحد على انفراده منهما زوج ، ويقال لهما أيضا : زوجان ، ومنه قوله تعالى : فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ( القيامة : 39 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من الضأن اثنين بدل من " ثمانية " منتصب بناصبه على حسب الخلاف السابق ، والضأن ذوات الصوف من الغنم ، وهو جمع ضائن ، ويقال للأنثى : ضائنة ، والجمع ضوائن ، وقيل : هو جمع لا واحد له ، وقيل : في جمعه : ضئين كعبد وعبيد .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ طلحة بن مصرف " الضأن " بفتح الهمزة ، وقرأ الباقون بسكونها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبان بن عثمان : " من الضأن اثنان ومن المعز اثنان " رفعا بالابتداء .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ومن المعز اثنين معطوف على ما قبله مشارك له في حكمه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وابن كثير وأهل البصرة بفتح العين من المعز .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون بسكونها .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان ، والمعز من الغنم خلاف الضأن ، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار ، وهو اسم جنس ، وواحد المعز ماعز ، مثل صحب وصاحب ، وركب وراكب ، وتجر وتاجر ، والأنثى ماعزة .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من هذه الآية : أن الله سبحانه بين حال الأنعام وتفاصيلها إلى الأقسام المذكورة توضيحا للامتنان بها على عباده ، ودفعا لما كانت الجاهلية تزعمه من تحليل بعضها وتحريم بعضها تقولا على الله سبحانه وافتراء عليه ، والهمزة في قل آلذكرين حرم أم الأنثيين للإنكار ، والمراد بالذكرين : الكبش والتيس ، وبالأنثيين : النعجة والعنز ، وانتصاب الذكرين بحرم ، والأنثيين معطوف عليه منصوب بناصبه .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : الإنكار على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها ، وقولهم : ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا أي : قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام ، وإن كان حرم الإناث فكل أنثى حرام ، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، يعني من الضأن والمعز فكل مولود حرام ذكرا كان أو أنثى وكلها مولود ، فيستلزم أن كلها حرام .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : نبئوني بعلم إن كنتم صادقين أي أخبروني بعلم لا بجهل إن كنتم صادقين .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد من هذا التبكيت وإلزام الحجة لأنه يعلم أنه لا علم عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وهكذا الكلام في قوله : ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين إلى آخره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " أم " هي المنقطعة ، والاستفهام للإنكار ، وهي بمعنى بل والهمزة : أي بل أكنتم شهداء حاضرين مشاهدين إذ وصاكم الله بهذا التحريم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد التبكيت وإلزام الحجة كما سلف قبله .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فحرم شيئا لم يحرمه الله ونسب ذلك إليه افتراء عليه كما فعله كبراء المشركين ، واللام في ليضل الناس بغير علم للعلة : أي لأجل أن يضل الناس بجهل وهو متعلق بافترى إن الله لا يهدي القوم الظالمين على العموم ، وهؤلاء المذكورون في السياق داخلون في ذلك دخولا أوليا ، وينبغي أن ينظر في وجه تقديم المعز والضأن على الإبل والبقر مع كون الإبل والبقر أكثر نفعا وأكبر أجساما وأعود فائدة ، لا سيما في الحمولة والفرش اللذين وقع الإبدال منهما على ما هو الوجه الأوضح في إعراب " ثمانية " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه من طرق عن ابن عباس ، قال : الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز .

                                                                                                                                                                                                                                      وليت شعري ما فائدة نقل هذا الكلام عن ابن عباس ، من مثل هؤلاء الأئمة ، فإنها لا تتعلق به فائدة ، وكون الأزواج الثمانية هي المذكورة هو هكذا في الآية مصرحا به تصريحا لا لبس فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، عن قتادة ، قال : الذكر والأنثى زوجان .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، [ ص: 454 ] وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : ثمانية أزواج قال : في شأن ما نهى الله عنه من البحيرة والسائبة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن ليث بن أبي سليم قال : الجاموس والبختي من الأزواج الثمانية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طرق عن ابن عباس ، في قوله : ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قال : فهذه أربعة قل آلذكرين حرم أم الأنثيين يقول : لم أحرم شيئا من ذلك أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين يعني هل تشتمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم يحرمون بعضا ويحلون بعضا ؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين يقول : كلها حلال : يعني ما تقدم ذكره مما حرمه أهل الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية