الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد ذكر - سبحانه - بعد ذلك حال الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ فقال - سبحانه؛ وتعالت كلماته -: إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ؛ أكد - سبحانه - أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم في الدنيا أمران؛ أحدهما سبب للآخر؛ ولهم في الآخرة سوء العذاب؛ وهم في الآخرة هم الأخسرون. [ ص: 5431 ] ولنتكلم مستشرفين لمعاني القرآن الكريم في الأمرين؛ في الدنيا؛ والآخرة؛ وقبل أن نخوض فيها خوضا نقرر أنه كما أن اليقين باليوم الآخر خلة المؤمن الدافعة إلى الخير؛ والتي تجعله يتحمل متاعب هذه الحياة؛ راجيا ما وراءها؛ فإن فقد الإيمان باليوم الآخر ينسي الإنسان نفسه؛ فيعتقد أن هذه الحياة هي وحدها الحياة؛ ولا حياة بعدها؛ ويحسب أنه خلق عبثا؛ ولذا قال - سبحانه -: زينا لهم أعمالهم ؛ أي: حسن الله لهم أعمالهم؛ فحسبوها وحدها الخير؛ ولا يحسبون أن أعمالهم كلها زينة؛ وأمر حسن؛ فهم دائما ممن زين لهم أعمالهم فرأوه حسنا؛ فكل أعمالهم لا ينظرون إليها إلا من وراء نفوسهم غير المستقيمة؛ ولا يعترفون بإرشاد مرشد؛ ولا هداية هاد; واعظ أو زاجر؛ فهم في لهو دائم عن الحق؛ وإن من كانت حاله كذلك؛ قد ضرب على آذانه؛ فلا يسمع الحق؛ ولا يهتدي بهديه؛ قد أهمل عقله وتفكيره؛ وما أعطاه الله (تعالى) من مواهب؛ وفطرة مستقيمة؛ ولذا قال (تعالى): فهم يعمهون ؛ الفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ أي ترتب على هذا التزيين لكل الأعمال التي يعملون؛ ويحسبونها زينة؛ يترتب على ذلك أنهم يعمهون.

                                                          و " العمه " : التردد والحيرة؛ أي: ترتب على أن أعمالهم زينتها لهم نفوسهم؛ أن صاروا في حيرتهم؛ لفطرتهم السليمة التي تريهم الحق حقا؛ والباطل باطلا؛ وتزين نفوسهم للباطل حقا؛ وللحق باطلا؛ فتكون الحيرة بين الفطرة الهادية والشر المتحكم؛ والضلال المظلم.

                                                          وقد أكد الله - سبحانه وتعالى - هذه الحال بمؤكدات؛ أولها بـ " إن " ؛ المؤكدة؛ وبإضافة التزيين إليه - سبحانه -؛ وأن ما يريده الله لا يتخلف؛ ولا يمكن أن يتخلف؛ ولكن التزيين ابتدأ من أنفسهم؛ وتمكن الشيطان منهم وإغوائهم؛ وقد ذكر - سبحانه - بعد وصف حالهم في الدنيا؛ وهو أن الدنيا تكون لهم مضطربا فسيحا؛ فإن من الحيرة والاضطراب حالهم في الآخرة؛ فذكر أمرين؛ أولهما سوء العذاب؛ وثانيهما أنهم وحدهم الأخسرون؛ فقال: أولئك الذين لهم سوء [ ص: 5432 ] العذاب ؛ الإشارة إلى المتصفين بعدم الإيمان باليوم الآخر؛ وتزيين العمل السيئ لهم؛ فحسبوه حسنا؛ وما هو بحسن؛ وهذه الأحوال هي سبب العذاب؛ لأن ذكر الإشارة إلى الصفات يومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم؛ وسوء العذاب هو العذاب الذي يسوء النفوس؛ ويشوي الوجوه؛ وهو النار الدائمة؛ والعذاب المقيم الدائم ما شاء الله (تعالى) أن يدوم؛ خالدين فيها أبدا؛ وقال الله (تعالى) في بيان حالهم: وهم في الآخرة هم الأخسرون ؛ الأخسرون ؛ جمع " أخسر " ؛ وهو أفعل تفضيل على غير بابه؛ أي: هم الذين خسروا خسارة ليس فوقها خسارة أبدا؛ وفيه تأكيد للقول الكريم؛ وقد أكد - ثانيا - بـ " هم " ؛ التي تكررت؛ وأكد - ثالثا - بالقصر؛ لتعريف الطرفين؛ أي: هم وحدهم الأخسرون؛ ولا يخسر أحد سواهم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية