الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله (تعالى): لا يكلف الله نفسا إلا وسعها : جملة مستقلة؛ جيء بها إثر حكاية تلقيهم لتكاليفه (تعالى) بحسن الطاعة؛ إظهارا لما له (تعالى) عليهم؛ في ضمن التكليف؛ من محاسن آثار الفضل؛ والرحمة ابتداء؛ لا بعد السؤال؛ كما سيجيء؛ هذا.. وقد روي أنه لما نزل قوله (تعالى): وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ؛ الآية.. اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأتوه - عليه الصلاة والسلام -؛ ثم بركوا على الركب؛ فقالوا: أي رسول الله.. كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة؛ والصوم؛ والحج؛ والجهاد؛ وقد أنزل إليك هذه الآية؛ ولا نطيقها؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا؛ وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا؛ وأطعنا؛ غفرانك ربنا؛ وإليك المصير"؛ فقرأها القوم؛ فأنزل الله - عز وجل -: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ؛ إلى قوله (تعالى): ربنا وإليك المصير ؛ فمسؤولهم الغفران؛ المعلق بمشيئته - عز وجل - في قوله (تعالى): فيغفر لمن يشاء ؛ ثم أنزل الله (تعالى): لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؛ تهوينا للخطب عليهم؛ ببيان أن المراد بما في أنفسهم ما عزموا عليه من السوء خاصة؛ لا ما يعم الخواطر التي لا يستطاع الاحتراز عنها؛ و"التكليف": إلزام ما فيه كلفة؛ ومشقة؛ و"الوسع": ما يسع الإنسان؛ ولا يضيق عليه؛ أي: سنته (تعالى) أنه لا يكلف نفسا من النفوس إلا ما يتسع فيه طوقها؛ ويتيسر عليها؛ دون مدى الطاقة؛ والمجهود؛ فضلا منه (تعالى)؛ ورحمة لهذه الأمة؛ كقوله (تعالى): يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ؛ وقرئ: "وسعها"؛ بالفتح؛ وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال؛ لا على امتناعه؛ وقوله (تعالى): لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت : للترغيب في المحافظة على مواجب التكليف؛ والتحذير عن الإخلال بها؛ ببيان أن تكليف كل نفس؛ مع مقارنته لنعمة التخفيف؛ والتيسير؛ تتضمن مراعاته منفعة زائدة؛ وأنها تعود إليها؛ لا إلى غيرها؛ ويستتبع الإخلال به مضرة تحيق بها؛ لا بغيرها؛ فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله؛ واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته؛ أي: لها ثواب ما كسبت من الخير؛ والذي كلفت فعله؛ لا لغيرها؛ استقلالا؛ أو اشتراكا؛ ضرورة شمول كلمة "ما" لكل جزء من أجزاء مكسوبها؛ وعليها - لا على غيرها؛ بأحد الطريقين المذكورين - عقاب ما اكتسبت من الشر؛ الذي كلفت تركه؛ وإيراد [ ص: 277 ] الاكتساب في جانب الشر لما فيه من اعتمال ناشئ من اعتناء النفس بتحصيل الشر؛ وسعيها في طلبه.

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا : شروع في حكاية بقية دعواتهم؛ إثر بيان سر التكليف؛ أي: لا تؤاخذنا بما صدر عنا من الأمور المؤدية إلى النسيان؛ أو الخطإ؛ من تفريط؛ وقلة مبالاة؛ ونحوهما؛ مما يدخل تحت التكليف؛ أو بأنفسهما؛ من حيث ترتبهما على ما ذكر؛ أو مطلقا؛ إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما؛ عقلا؛ فإن المعاصي كالسموم؛ فكما أن تناولها - ولو سهوا؛ أو خطأ - مؤد إلى الهلاك؛ فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب؛ وإن لم يكن عن عزيمة؛ ووعده (تعالى) بعدمه لا يوجب استحالة وقوعه؛ فإن ذلك من آثار فضله (تعالى) ورحمته؛ كما ينبئ عنه الرفع في قوله - عليه الصلاة والسلام -: "رفع عن أمتي الخطأ؛ والنسيان"؛ وقد روي أن اليهود كانوا إذا نسوا شيئا عجلت لهم العقوبة؛ فدعاؤهم بعد العلم بتحقق الموعود للاستدامة؛ والاعتداد بالنعمة في ذلك؛ كما في قوله (تعالى): ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك .

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا ولا تحمل علينا إصرا : عطف على ما قبله؛ وتوسيط النداء بينهما لإبراز مزيد الضراعة؛ و"الإصر": العبء الثقيل؛ الذي يأصر صاحبه؛ أي: يحبسه مكانه؛ والمراد به التكاليف الشاقة؛ وقيل: "الإصر": الذنب الذي لا توبة له؛ فالمعنى: اعصمنا من اقترافه؛ وقرئ: "آصارا"؛ وقرئ: "ولا تحمل"؛ بالتشديد؛ للمبالغة؛ كما حملته على الذين من قبلنا : في حيز النصب؛ على أنه صفة لمصدر محذوف؛ أي: حملا مثل حملك إياه على من قبلنا؛ أو على أنه صفة لـ "إصرا"؛ أي: إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا؛ وهو ما كلفه بنو إسرائيل؛ من بخع النفس في التوبة؛ وقطع موضع النجاسة؛ وخمسين صلاة في يوم وليلة؛ وصرف ربع المال للزكاة؛ وغير ذلك من التشديدات؛ فإنهم كانوا إذا أتوا بخطيئة حرم عليهم من الطعام بعض ما كان حلالا لهم؛ قال الله (تعالى): فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ؛ وقد عصم الله - عز وجل - بفضله ورحمته هذه الأمة عن أمثال ذلك؛ وأنزل في شأنهم: ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ؛ وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السهلة؛ السمحة"؛ وعن العقوبات التي عوقب بها الأولون؛ من المسخ؛ والخسف؛ وغير ذلك؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخسف؛ والمسخ؛ والغرق".

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به : عطف على ما قبله؛ واستعفاء عن العقوبات؛ التي لا تطاق؛ بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها التفريط فيه؛ من التكاليف الشاقة؛ التي لا يكاد من كلفها يخلو عن التفريط فيها؛ كأنه قيل: لا تكلفنا تلك التكاليف؛ ولا تعاقبنا بتفريطنا في المحافظة عليها؛ فيكون التعبير عن إنزال العقوبات بالتحميل؛ باعتبار ما يؤدي إليها؛ وقيل: هو تكرير للأول؛ وتصوير للإصر بصورة ما لا يستطاع؛ مبالغة؛ وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به الطاقة البشرية حقيقة؛ فيكون دليلا على جوازه عقلا؛ وإلا لما سئل التخلص عنه؛ والتشديد ههنا لتعدية الفعل إلى مفعول ثان؛ واعف عنا ؛ أي: آثار ذنوبنا؛ واغفر لنا ؛ واستر عيوبنا؛ ولا تفضحنا على رؤوس الأشهاد؛ وارحمنا ؛ وتعطف بنا؛ وتفضل علينا؛ وتقديم طلب العفو والمغفرة على طلب الرحمة لما أن التخلية سابقة على التحلية؛ أنت مولانا ؛ سيدنا؛ ونحن عبيدك؛ أو: ناصرنا؛ أو متولي أمورنا؛ فانصرنا على القوم الكافرين ؛ فإن من حق المولى أن ينصر عبده؛ ومن يتولى أمره؛ على الأعداء؛ والمراد به عامة الكفرة؛ وفيه إشارة إلى أن إعلاء كلمة الله؛ والجهاد في سبيله (تعالى)؛ حسبما أمر في تضاعيف السورة الكريمة؛ غاية مطالبهم؛ روي أنه - عليه الصلاة والسلام - لما دعا [ ص: 278 ] بهذه الدعوات؛ قيل له - عند كل دعوة -: "قد فعلت"؛ وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "أنزل الله آيتين من كنوز الجنة؛ كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام؛ من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل"؛ وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "من قرأ آيتين من سورة "البقرة" كفتاه"؛ وهو حجة على من استكره أن يقول: سورة "البقرة"؛ وقال: ينبغي أن يقال: السورة التي يذكر فيها البقرة؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "السورة التي يذكر فيها البقرة فسطاط القرآن؛ فتعلموها؛ فإن تعلمها بركة؛ وتركها حسرة؛ ولن تستطيعها البطلة"؛ قيل: وما البطلة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "السحرة"

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية