الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( فإنها ثابتة للمصطفى كغيره من كل أسباب الوفا ) )


( ( من عالم كالرسل والأبرار     سوى التي خصت بذي الأنوار ) )



( ( فإنها ) ) أي الشفاعة العظمى وغيرها من سائر الشفاعات الآتي ذكرها ( ثابتة ) بالنقل الصحيح بل المتواتر ( لـ ) النبي ( ( المصطفى ) ) محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ( كـ ) ) ما أنها ثابتة لـ ( ( غيره ) ) أي غير نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ( ( من كل أرباب ) ) أي أصحاب ( ( الوفا ) ) بامتثال الأوامر ، والانتهاء عن الزواجر .

ثم أخذ في بيان ما أجمل من أرباب الوفا بقوله : ( ( من عالم ) ) عامل بعلمه معلم لغيره ، وهم الربانيون ، وهؤلاء ورثة الأنبياء ، فهؤلاء كما نفعوا الناس في الدنيا بالدلالة والتعليم ، كذلك ينفعونهم بالشفاعة عند المولى الجواد الكريم ، فيقبل شفاعاتهم ، ويعلي درجاتهم ( ( كالرسل ) ) [ ص: 209 ] جمع رسول ، وهو من أوحي إليه بشرع من بني آدم وأمر بتبليغه وكذا الأنبياء ، وهم - يعني الرسل والأنبياء - خواص الخلق من بني آدم ( ( والأبرار ) ) جمع بار ، وهم الأتقياء الأخيار .

والحاصل أنه يجب أن يعتقد أن غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من سائر الرسل والأنبياء والملائكة والصحابة والشهداء والصديقين والأولياء على اختلاف مراتبهم ومقاماتهم عند ربهم يشفعون ، وبقدر جاههم ووجاهتهم يشفعون لثبوت الأخبار بذلك ، وترادف الآثار على ذلك ، وهو أمر جائز غير مستحيل ، فيجب تصديقه والقول بموجبه لثبوت الدليل ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم :

( ( أنا أول شافع ، وأول مشفع ) ) روى هذا اللفظ أبو هريرة - رضي الله عنه - رواه مسلم ، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أخرجه البيهقي ، وعبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أخرجه البيهقي أيضا .

وأما حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عند البيهقي قال :

يشفع نبيكم رابع أربعة جبريل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبيكم ، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه نبيكم ، ثم الملائكة ، ثم النبيون ، ثم الصديقون ، ثم الشهداء .

قال البخاري : كذا قال أبو الزعراء : عن ابن مسعود ، ولا يتابع عليه ، والمشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - أول شافع ، وكذا قال غير البخاري من أئمة الحفاظ ، والله أعلم .

وأخرج ابن ماجه ، والبيهقي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

يشفع يوم القيامة الأنبياء ، ثم العلماء ، ثم الشهداء " وأخرجه البزار ، وفي آخره " ثم المؤذنون " .

وأخرج الطبراني في الكبير ، والبيهقي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " ليدخلن الجنة قوم من المسلمين قد عذبوا في النار - برحمة الله ، وشفاعة الشافعين " ، وأخرجه الإمام أحمد ، والبيهقي من حديث حذيفة ونحوه ، وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يشفع الله آدم يوم القيامة من جميع ذريته في مائة ألف ألف ، وعشرة آلاف ألف " ، وأخرج ابن أبي عاصم ، والأصفهاني عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " يجاء بالعالم والعابد ، فيقال للعابد : ادخل الجنة ، ويقال للعالم : قف حتى تشفع للناس " .

[ ص: 210 ] وأخرج البيهقي من حديث جابر مثله ، وزاد في آخره " بما أحسنت أدبهم " .

وأخرج الديلمي من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعا " يقال للعالم : اشفع في تلامذتك ، ولو بلغ عددهم نجوم السماء " .

وأخرج أبو داود ، وابن حبان عن أبي الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :

" الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته " وأخرج الإمام أحمد ، والطبراني مثله من حديث مقدام بن معدي كرب .

وأخرج البزار ، والبيهقي بسند صحيح عن أنس - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن الرجل ليشفع في الرجل والرجلين والثلاثة يوم القيامة " .

وأخرج الترمذي والحاكم وصححاه ، والبيهقي عن عبد الله بن أبي الجدعاء ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم " ، قالوا : سواك يا رسول الله ؟ قال : سواي " قال الفريابي : يقال : إنه عثمان بن عفان - رضي الله عنه .

وأخرج البيهقي عن الحسن مرفوعا " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر " والحاكم وصححه ، والبيهقي عن الحارث بن قيس مرفوعا " إن من أمتي من يدخل الجنة بشفاعته أكثر من مضر ، وإن من أمتي من سيعظم للنار حتى يكون أحد زواياها " .

وأخرج الإمام أحمد مثله من حديث أبي برزة . وهناد مثله من حديث أبي هريرة .

وأخرج الإمام أحمد والطبراني ، والبيهقي بسند صحيح عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين ربيعة ومضر " .

وأخرج الترمذي وحسنه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال :

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " إن من أمتي لرجالا يشفع الرجل منهم في الفئام من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل منهم للقبيلة فيدخلون الجنة بشفاعته ، ويشفع الرجل منهم للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته " .

وأخرج الطبراني عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :

لا تزال الشفاعة بالناس ، وهم يخرجون من النار حتى إن إبليس الأباليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه .

وأخرج البزار عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :

[ ص: 211 ] " الحاج يشفع في أربعة من أهل بيته " .

والحاصل أن للناس شفاعات بقدر أعمالهم ، وعلو مراتبهم وقربهم من الله تعالى ، والقرآن يشفع لأهله ، والحجر الأسود يشفع لمستلمه ، ولكن لا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون .

( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) . وبالله التوفيق ( سوى ) الشفاعات ( التي خصت بذي ) أي بصاحب ( الأنوار ) نبينا المختار - صلى الله عليه وسلم - ما دارت الأدوار ، وتعاقب الليل والنهار ، فلا يشاركه فيها نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، ولا صديق ولا شهيد ؛ لأنها مختصة بجنابه الرفيع ، وقدره المجيد ، والشفاعات المختصة به - صلى الله عليه وسلم - عدة ، ( أولها ) :

وهي أعظمها وأعمها ، شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لفصل القضاء بين الورى بعد التردد إلى الأنبياء ، وتدافعها بين أخيار الملأ إلى أن تصل لصاحب الحوض المورود ، وهى المقام المحمود ، وقد عم العالم زيادة القلق ، وتصاعد العرق ، وقاسوا من ذلك ما يذيب الأكباد ، وينسي الأولاد ، وهذه مجمع عليها لم ينكرها أحد . ( ثانيها ) :

يشفع عند ربه في إدخال قوم من أمته الجنة بغير حساب ، فإن هذه خاصة به أيضا - صلى الله عليه وسلم - كما قال القاضي عياض والإمام النووي ، وتردد ابن دقيق العيد في الاختصاص ، وتبعه الحافظ ابن حجر قال :

فإن الاختصاص إنما يثبت بالدليل ، ولا دليل عليه ، وقد روى حديث هذه الشفاعة مسلم في صحيحه ، وجزم بالاختصاص الحافظ السيوطي في أنموذج اللبيب . ( ثالثها ) :

شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في قوم استوجبوا النار بأعمالهم ، فيشفع فيهم فلا يدخلونها ، وهذه جزم القاضي وابن السبكي بعدم اختصاصها به - صلى الله عليه وسلم - وتردد النووي في ذلك . قال السبكي :

لأنه لم يرد نص صحيح بثبوت الاختصاص ولا بنفيه .

وجزم في الأنموذج بأنها من خصائصه - صلى الله عليه وسلم .

( رابعا ) في رفع درجات ناس في الجنة ، وهذه لا تنكرها المعتزلة كالأولى ، إلا أن النووي جوز اختصاصها به عليه الصلاة والسلام ، وجزم في كتاب الانتقاد له باختصاصها به .

قال في الأنموذج : جوز النووي اختصاص هذه والتي قبلها به ، ووردت الأحاديث في التي قبل ، وصرح به القاضي عياض ، وابن دحية . ( خامسها ) :

[ ص: 212 ] الشفاعة في إخراج عموم أمته من النار حتى لا يبقى منهم أحد ، ذكره السبكي ، وبالشفاعة في جماعة من صلحاء المسلمين ليتجاوز عنهم في تقصيرهم في الطاعات ، ذكره القزويني في العروة الوثقى .

التالي السابق


الخدمات العلمية