الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          معلومات الكتاب

          التعليم وإشكالية التنمية

          حسن بن إبراهيم الهنداوي

          تقديم

          عمر عبيد حسنة

          الحمد لله الذي جعل التوحيد لله تعالى خلاصا من ألوهية البشر وتسلط الإنسان على الإنسان، وتحقيقا للمساواة وكرامة الإنسان، وإيقافا للكهانات بمختلف أشكالها وممارساتها، ومنطلقا للنمو والارتقاء؛ وجعل الإنسان المستخلف محور الفعل الحضاري ووسيلته وهدفه؛ وعلمه الأسماء كلها، ليكون بهذا التعليم أهلا للقيام بأعباء الاستخلاف في الأرض وإعمارها وامتلاك القدرة على تسخير الكون،

          فقال تعالى: ( هو الذي جعلكم خلائف في الأرض ) (فاطر:39) ..

          وقال: ( قل هـو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ) (الملك:23) ،

          ( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ) (هود:61) ،

          وقال: ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية:13) .

          وكان التعليم مفتاحا لهذا الاستخلاف والإعمار والتسخير، ومرافقا لخطوات الإنسان الأولى على الأرض، لأن العلم والتعليم دليل العمل والتعامل، وسبيل التنمية والنمو والارتقاء بخصائص الإنسان وصفاته وأدواته، على حد سواء، حيث اقتضت حكمة الله جعل آدم وذريته [ ص: 5 ] خلفاء الأرض، وأن يكون من متطلبات هـذا الجعل ومؤهلاته التعليم،

          فقال تعالى: ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) (البقرة:30)

          وأتبعها بقولـه: ( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هـؤلاء إن كنتم صادقين ) (البقرة:31) .

          والصلاة والسلام على الرسول المعلم، الذي انتهت إلى رسالته أصول الرسالات السماوية من لدن آدم عليه السلام، واجتمعت له كمالات الأنبياء، فكان وريث النبوة وخاتمها، واللبنة الأخيرة في نموها وبنائها، حيث الكمال والاكتمال: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) (المائدة:3) .

          وكان التعليم منطلقه والغاية من مبتعثه، ( فقال عليه الصـلاة والسلام: « ... إنما بعثت معلما ) (أخرجه ابن ماجه) وكانت التزكية وتنمية خصائص وصفات الإنسان سبيله في الارتقاء وإقامة البناء الأخير للنبوة، ( فقال عليه الصلاة والسلام: « اقرأ وارتق ) (أخرجه الترمذي وقال: هـذا حديث حسن صحيح) ، وقال تعالى: هو الذي بعث في الأميين [ ص: 6 ] ( رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) (الجمعة:2)

          وبتلك النبوة الخاتمة قدم الإسلام أنموذجا كاملا شاملا لعملية الاستخلاف، ودليلا خالدا للمضي في رحلة الحياة، وحقق الانسجام في مكونات الحياة، وقضى على الثنائيات التي أنهكت البشرية ومزقت حياة الإنسان، فكان التوازي في العملية التنموية بين خصائص وصفات الإنسان وبين الارتقاء بوسائله وأدواته وإبداعاته، فلا تعليم بدون تربية وحكمة، ولا تنمية بدون تزكية للنفس؛ لأن الإنسان وسيلة التنمية وهدفها في الوقت نفسه، فالنظر إليه كوسيلة للتنمية والاقتصار على تنمية وسائله على حساب خصائصه وصفاته شقوة وحياة ضنك، والانصراف إلى تنمية خصائصه وصفاته وإهمال وسائله وأدواته عطالة حضـارية ووقوع في الثنائية، وفهم مغشوش لرسالة النبوة، إذ لا يمـكن أن يتصور أن تنمو خصائص الإنسان وتتخلف وسـائله؛ لأن تنمية الوسائل من لوازم نمو الخصائص والصفات، ومتطلباتها.

          وبعد:

          فهذا كتاب الأمة الثامن والتسعون: «التعليم وإشكالية التنمية» للدكتور حسن بن إبراهيم الهنداوي، في سلسلة «كتاب الأمة» التي يصدرها مركز البحوث والدراسات في وزارة الأوقاف والشئون [ ص: 7 ] الإسلامية في دولة قطر، في محاولة لإعادة التشكيل الثقافي، والتمحور حول إشكالية التنمية الثقافية، ودراسة أسبابها الحقيقية، ومظاهرها المتعددة، وتجلياتها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى التربوية والتعليمية، وتحديد مواطن الخلل في عملية النهوض، لردم فجوة التخلف، واستعادة الفاعلية، وإخراج الأمة من جديد، وإعادة بناء ولائها المبعثر، لتستأنف دورها الإنساني والعالمي في إلحاق الرحمة بالعالمين، واجتثاث جذور الفتنة وشيوع الظلم وتسلط الإنسان على الإنسان، وإعادة التوازن إلى الحياة والتوازي بين تنمية خصائص الإنسان وصفاته وبين وسائله وأدواته، التي تحولت تنميتها إلى أدوات للبغي والهيمنة والتسلط والاستغلال، وإعادة بناء إنسان الواجب، إنسان الإنتاج والعطاء، وجعله معيار الحضارة والتنمية، بعد أن كاد يغيب أمام إنسان الاستهلاك، معيار حضارة اليوم، الذي لا يبصر إلا حقه، ويقاس تقدمه بحجم استهلاكه، وإعادة الاعتبار لإنسان العلم والخلق والخبرة والفطرة، بعد أن كاد يغيب أمام إنسان اللذة والاكتناز والغريزة، حيث أصبح الأنموذج لإنسان العصر هـو رجل الأعمال الناجح، وليس رجل الإبداع والخبرة والعلم والابتكار والعطاء.

          ولا يغيب عنا هـنا أن بناء الشاكلة الثقافية، أو إعادة التشكيل الثقافي، وبناء المجتمع المعرفي وتوفير البيئة والمناخ العلمي، يعتبر من الصناعات [ ص: 8 ] الثقيلة والشاقة، التي تتطلب الكثير من الصبر والتأني والمراجعة والفاعلية والاحتساب، ذلك أن الاشتغال بالتحول الثقافي وتحقيقه كان ولا يزال مهمة أولي العزم من الرسل وأصحاب العزائم من الرجال، الذين يسيرون على قدم النبوة.

          وقد لا نكون بحاجة إلى معاودة التأكيد أن التنمية رؤية ثقافية وعملية حضارية متراكبة وشاملة، ذات أبعاد متعددة ومتكاملة، وليست ذات بعد واحد، وإن كان الأظهر فيها اليوم هـو البعد الاقتصادي والسياسي، إذ لا يمكن أن يتصور أن يترافق النمو في جانب مع تخلف وتراجع في بقية الجوانب الأخرى، فالقضية قضية رؤية ثقافية شاملة، إذا اعتبرنا أن الثقافة نسيج ذهني يصنع الإنسان ويصبغه، ويتحكم بسلوكه، توجيها وتقويما، وهي أيضا فعل حضاري، بكل ما يشتمل عليه مصطلح الحضارة من أنشطة، وهي منهجية واستراتيجية عمل تأخذ في اعتبارها بعدي الزمان والمكان، وتستصحب قيم الأمة ومعادلتها الاجتماعية، وتستوعب حركات التغيير والتنمية والإصلاح والمراجعة، وتتوقف طويلا عند مقومات فترات التألق والإنجاز لتقيس منها وتستصحبها، كما تتوقف بالقدر نفسه عند فترات التراجع والتقهقر والتخلف، لتبحث في الأسباب التي أنشأتها، وتحدد مواطن الخلل والقصور التي حالت دون بلوغ الأهداف المأمولة فتعتبر بها. [ ص: 9 ]

          ذلك أن الارتكاز إلى حركات التغيير، بكل وجوهها وأدائها، والإفادة من تجربتها، سواء كانت خطأ في عملية التسديد والسداد والوقاية الحضارية، أم كانت صوابا في عملية التقوي والانطلاق والابتداء من حيث انتهت، يشكل رصيدا لا بد منه في أي عملية تنموية جديدة.

          وهذا لا يعني بحال الانكفاء على الذات، في عملية التحديث والتنمية، والتجاهل لعمليات التحديث والتنمية العالمية، وعدم الإفادة من رؤيتها ومنهجيتها، وإنما التأكيد أن عملية التنمية والنمو لو تأملنا في مصطلحها لا يمكن إلا أن ترتكز إلى شيء قائم فتنميه ذاتيا، وبذلك لا تتحقق إلا من خلال الذات والبناء على الأصول الحضارية ذاتها، وإلا تكون حركة في الفراغ، إذ لا يمكن أن نتصور قيام واقع أمة، الذي هـو ثمرة أو انتكاسة لامتداد حضارتها، على أصول حضارة أخرى، إضافة إلى أن الواقع يشهد أن محاولات التحديث من خارج حضارة الأمة وقيمها ومعادلتها الاجتماعية، انتهت إلى نوع من التكديس والتمظهر التنموي، وفوتت على الأمة الكثير من الفرص التي تمكنها من استنبات التنمية الذاتية في ضوء إمكاناتها، فكانت سبب عطالة بدل أن تكون عامل نمو ونهوض.

          إن عمليات التحديث المستوردة كانت أشبه بالسحر، الذي ما لبث أن انقلب على السـاحر عندما ظهرت الحقيقة وأحرقت خشبة المسرح ولم يبق إلا الممثلون. [ ص: 10 ]

          وإذا كانت التنمية رؤية ثقافية -كما أسلفنا- فلا يمكن أن تتحقق على مستوى الذات والإفادة من (الآخر) إلا إذا توفرت المعايير والقيم الحقيقية التي تتحكم بعمليتي الأخذ والرد.. والذي يفتقد هـذه الرؤية الثقافية هـو كل في الميزان التنموي، عاجز عن الاستنبات، كما هـو عاجز عن اختيار ما يفيده من (الآخر) فقد يختار ما يساهم بعجزه واستنقاعه الحضاري وما يكرس تخلفه ويعمق فجوة التخلف في مجتمعه.

          إن معرفة مناهج ومعارف (الآخر) وخططه التنموية والإفادة منها وتجنب عثراتها فرض حضاري، وإسهام إنساني، وتفاعل تنموي في العطاء والأخذ وبناء المشترك الإنساني.

          فعلى الرغم من أن الإسلام يمثل الرسالة الخاتمة، التي انتهت إليها أصول الرسالات السماوية جميعا، وكان الموحى إليه يقود المسيرة البشرية على المستويات التنموية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع ذلك طلب إلى المسلمين أصحاب هـذه الرسالة السير في الأرض والتعرف على ما فيها، والنظر في أحوال أهلها، والتفاعل الحضاري مع (الآخر) ؛ لأن التنوع والنظر والتفاكر والمثاقفة سبيل تنمية الذات والنهوض الحضاري،

          قال تعالى: ( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ) (العنكبوت:20) ، وقال مستنكرا حالة الركود: ( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا [ ص: 11 ] كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) (يوسف:109) .

          حتى أنه اعتبر السير في الأرض والتوغل في حضارة (الآخر) سبيلا للبيان والمعرفة، ووسيلة للاهتداء إلى التعرف على أسباب السقوط والنهوض، كسنن وقوانين تحكم الحياة والأحياء جميعا، وتحقيقا للاعتبار، وتجنبا لأسباب السقوط والتراجع والتخلف، وتحققا بالوقاية الحضارية التي تؤمن المسيرة التنموية ،

          قال تعالى: ( قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) (الأنعام:11) ، ( هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ) (آل عمران:138) .

          ولا شك عندي أن شيوع التخلف وغياب الرؤية التنموية في عالم المسلمين سببه الأساس أننا اليوم لسنا في مستوى إسلامنا بالنسبة للذات، ولسنا بمستوى عصرنا بالنسبة (للآخر) ، وأعتقد أن الأمرين متلازمان إلى حد بعيد.

          وعلى الرغم من أن عملية النهوض وردم فجوة التخلف هـي عملية جماعية أو مجتمعية إلا أنها تبدأ من عند الفرد في إطار الدائرة التي يشغلها ويتوسع فيها، لتتراكم مجهودات الأفراد وتشكل مجرى كبيرا تنخرط فيه الأمة جميعا.

          والحقيقة التي لا لبس فيها أن العملية التنموية هـي تفكير وتنهيج، ورؤية نخبة، وإنجاز وفعل أمة، وأن الإشكالية الحقيقية تكمن في أزمة [ ص: 12 ] النخبة، التي تنصب نفسها في مختلف المواقع ولم تنتج إلا التخلف والتراجع.. ومع ذلك تصر على نخبويتها والوصاية على الأمة.

          إن واقع الحال التراجعي، الذي تعاني منه الأمة يعني ببساطة فشل النخبة في إنتاج تنمية، أو في بناء مناخ تنمية تتحرك فيه الأمة.

          فالإشكالية في من نصبوا من أنفسهم أوصياء على الأمة، على المستوى السياسي والديني والاجتماعي، فهذا الحال الذي تعاني منه الأمة هـو من إنتاجهم، مهما حاولوا تغيير لبوسهم وتغيير عناوين خطبهم ومؤتمراتهم والتفتيش على عناوين جديدة، ذلك أن المضامين هـي هـي.. وكم من المؤتمرات والندوات تتغير عناوينها ومحاورها ولا يتغير أشخاصها المتحرفون، فلا تخرج عن تكريس حالة التخلف، أو تنمية التخلف، وفي هـذه الحالة يشيع فقه المخارج، ويغيب فقه المقاصد، ويتمحور الفقه غالبا حول الحيل الشرعية، ويتسع مبدأ سد الذرائع حتى يعطل النصوص الفاعلة، ويتحول الإنسان من الفعل والإنجاز واستشعار المسئولية إلى الاكتفاء بالحكم على فعل (الآخر) ، والتحول أيضا من السير أمام المجتمعات واستشراف مستقبلها ووضع الأوعية الشرعية لحركتها من خلال الإمكانات المتاحة والظروف المحيطة والمقاصد المرجوة وتقديم النماذج الرائدة المثيرة للاقتداء، إلى السير وراءها وإيجاد المسوغات والأحكام على ممارساتها. [ ص: 13 ]

          والحقيقة أن مخاطر الجرائم الثقافية بحق الأمة قد تكون أشد عليها من جرائم الحرب التي تمارس من قبل بعض العسكريين والسياسيين، وأن الكثير من المجرمين الثقافيين أحق بالمحاكمة الثقافية، وعلى الأخص منهم سدنة التخلف والاستبداد السـياسي وفقهاء ومثقفو السـلطان، الذين لا يخلصون النصح حتى للسلطان، ويقودونه إلى حتفه ودمار الأمة، فهم أشبه بمشيعي جنازة يرفعونها على رءوسهم لكنهم ينتهون بها إلى المقابر ويعودوا لاستقبال زبائن جددا، وليس بأحسن حالا أولئك الذين يغادرون المجتمعات بحجج واهية، وينسحبون من المعركة الحضارية، ولا يدركون سنن التدافع التي هـي سبيل النمو والارتقاء.

          ويمكن القول: بأن التخلف والتراجع والتقهقر وغياب خطط التنمية وانطفاء الفاعلية يمثل مرحلة القصعة وحالة الوهن الحضاري، الذي يلحق بالأمم على مستوى الأفراد والجماعات، ويمثل مناخا ينعكس على كل أداء وفهم وتعامل، حتى أنه ينعكس على قراءة التاريخ وتفسير النصوص واستنباط الأحكام الشرعية، كما ينعكس أيضا على مؤسسات التعليم والمكونات الثقافية والفكرية في الأمة.. فالتخلف إلى جانب كونه واقعا، فهو حالة ذهنية، وإصابة فكرية، وقصور فقهي وانطفاء فاعلية، وغياب الفكرة وبروز الغريزة. [ ص: 14 ]

          ولقد حذر الرسول الأمة المسلمة من أن تنتهي إلى مرحلة القصعة، ويتسرب إليها الوهن الحضاري مستقبلا، ( فقال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.. فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن.. فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ) (أخرجه أبو داود) .

          إنها مرحلة القصعة، حيث تصبح جامعاتنا محلا لاستهلاك (الآخر) وسبيلا إلى إنتاجه، وتتحول جميع ممارساتنا لتصبح ممارسات استهلاكية تصب في مصلحة (الآخر) .

          حتى جهادنا يصبح جهادا استهلاكيا يستخدم فيه (الآخر) تضحياتنا في تصفية حساباته، ويدخلنا المعارك نيابة عنه، سواء بغفلة منا أو باختراق وتواطؤ لداخلنا، ثم نكون أول الضحايا.

          حتى عقولنا ومواهبنا وإنتاجنا الثقافي تستنـزف، وتهجر، وتهاجر، لتصبح في خدمة مؤسسات (الآخر) .

          إنها مرحـلة الوهن الحضـاري وحالة القصعة، التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم . [ ص: 15 ]

          ولقد استغرب بعض الصحابة هـذا التحذير، الذي لا يمكن أن ينتسب أو يتصور في واقع الصحابة، وسأل عن معنى الوهن الحضاري (التخلف والسقوط) ( فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ فقال: «حب الدنيا وكراهية الموت».

          )
          فالإشكالية، أو إشكالية التخلف والوهن، هـي نوعية وليست كمية: ( أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ) ، ذلك أن من أكبر المؤشرات على السقوط الحضاري أو الوهن الحضاري يتمثل في بروز إنسان الاستهلاك، الذي عبر عنه الرسول بـ «حب الدنيا» ذلك الإنسان الذي يعب من المتع عبا، ويطلق شهواته وغرائزه ويسدر في غيه.. وقد لا نستغرب ذلك في هـذا العصر المتخلف، كما استغربه الصحابة رضي الله عنهم، فلقد أصبح ميزان التقدم والنمو يقاس بمدى الاستهلاك وبروز إنسان الاستهلاك، إنسان الحق، الذي لا يرى إلا حقه، دون أن يفكر ولو لحظة بواجبه.. وشيوع هـذا الإنسان ينتهي بالأمة إلى مرحلة تفتقد معها التوازن الاجتماعي والتنموي، وهذه الحالة تترافق عادة مع غياب إنسان الإنتاج، إنسان الواجب، إنسان الفكرة، الذي لم يقدم لمستقبله شيئا يطمئن إليه.

          وما لم تفكر مؤسساتنا التربوية والثقافية والإعلامية والتعليمية ومساجدنا وأنديتنا في تصويب المعادلة، واستعادة إنسان الواجب، إنسان [ ص: 16 ] الفكرة، ومحاصرة إنسان الحق فقط، إنسان الاستهلاك وإطلاق الغريزة عن عقالها، فلن تكون هـناك تنمية حقيقية، مهما اتسعت مؤسسات الاستهلاك وكثرت مستورداتها.

          وهذا الوهن الحضاري، أو مناخ التخلف، يصيب الذهنية وينعكس على الفهم والأداء -كما أسلفنا- وتصبح الكثير من المؤسسـات المنوط بها عملية النهوض عبئا على النهوض، وعقبة في وجه العملية التنمـوية ، ولا أظن أن هـناك خلافا عند معظم المفكرين والباحثين والمنظرين في أن إشكالية التنمية في العالم الإسلامي والعالم تكمن في نظام التعليم ومنهجيته وأدائه، وأن التربية هـي التنمية في جماع القول، وأن عامل النهوض والتنمية لا بد أن يبدأ بالعلم والتعليم، وأن نهضتنا وثقافتنا ورسالتنا وحضارتنا انطلقت من ( اقرأ ) ولم تبدأ بأية تكليف آخر، حتى الصلاة عماد الدين، والجهاد ذروة سـنامه، فلا عبادة ولا إنجاز ولا مجاهدة ولا تقدم ولا تنمية بدون معرفة، لذلك ( قال الرسول : « اقرأ وارتق ) فسبيل النمو والارتقاء هـو المعرفة.

          وبالإمكان القول: بأن التعليم والتربية وكل المؤسسات التي تساعد العملية التعليمية والمعرفية، من الإعلام إلى مراكز البحوث والدراسات إلى معامل ومصادر المعرفة، هـي المسئول الأول عن التخلف، وسوف لا نأتي بجديد، أو نقرر حقيقة غائبة، إذا توقفنا عند هـذه الحدود. [ ص: 17 ]

          وإذا كان التعليم والمؤسسات المساندة له هـو المسئول الأول عن التخلف والتراجع والسقوط الحضاري، وإذا كان واقع التعليم وانحسار الأمية الأبجدية في تنام، يبقى السؤال الكبير المطروح: لكن أين الخلل في المسألة التعليمية؟ وأين الإشكالية؟ إذ لا مندوحة لنا إذن من المراجعة وإعادة النظر في التعليم؛ لأنه سبيل الخروج من نفق التخلف ووسيلة تحقيق التنمية؛ ولأن الإنسان، محل التعليم، هـو وسـيلة التنمـية وهدفها في الوقت نفسه، وما لم نعد للإنسان، ونتعهد تنقية أفكاره، ونحاول تطوير وتنمية خصائصه وصفاته، فلن نقتحم العقبة، مهما حاولنا تطوير أشياءه واستيرادها وتكديسها.

          فنحن كنا أمة أمية لا تقرأ ولا تحسب، كما كان الحال عند مجيء النبوة، فلما أحسنا التعليم والتعلم وأحسنا القراءة الهادفة كنا خير أمة أخرجت للناس في مجال البناء والعطاء والشهود الحضاري.. ذلك عندما عرفنا كيف نقرأ، ولماذا نقرأ، وكنا نقرأ لنتعلم لا نتعلم لنقرأ، كما هـو الحال اليوم، وكان شعار القراءة: القراءة باسم الله الأكرم، بكل ما تحمل تلك القراءة باسم الله من دلالات وأهداف وتوظيف العلم للتنمية والارتقاء، وكان التخوف الدائم من أن تتحول القراءة عن أهدافها في الخير والعدل والسلم والرحمة إلى نوع من البغي الذي تسانده المعرفة، ذلك أن الكثير من الإنتاج العلمي اليوم إنما يتمركز في تنمية أشياء [ ص: 18 ] الإنسان على حساب الإنسان، بل الإمكان القول: إنه يتمركز في معظمه على التكنولوجيا التي تمكن من الهيمنة والغلبة والسيطرة والتسلط.

          فالعلم إن لم يضبط بمرجعـية قيمية وأهداف إنسانية يتحول إلى ظلم وبغي وتفرق وتخلف وكهانات، حتى في المجال الديني،

          قال تعالى: ( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب ) (الشـورى:14) ..

          لذلك كان من دعاء الرسول (، ومن يسير على قدم النبوة من بعده: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع» (أخرجه مسلم) .

          فالمشكلة التنموية إذن تكمن في مناهج التعليم، وطرائق التعليم، وسياسة التعليم، ومؤسسات التعليم، ونوعية التعليم، وأهداف التعليم، فملف التعليم وديمومة النظر فيه وتطوير وسائله وإعادة النظر في سياساته وأهدافه، من أهم متطلبات التنمية، أما إذا أصبح التعليم يعاني من غربة الزمان والمكان، ويعيش خلف المجتمع بعيدا عنه وعن مشكلاته، ويحاصر نفسه وحركته ضمن معطيات عقول أنتجت لعصر آخر ومشكلات أخرى مهما كانت متألقة ومبدعة، فلن يحقق نقلة تنموية نوعية.. ومهما تعددت واتسعت الجامعات فلا تخرج عن أن تكون تكرارا للنسخة الواحدة.. والشيء المحزن حقا أن التخلف في عالمنا اليوم قد يتناسب عكسيا مع زيادة عدد الجامعات وانحسار الأمية! [ ص: 19 ]

          فإذا ألقينا نظرة على عدد الجامعات، وعدد الرسائل العلمية، وعدد المجلات المحكمة، وعدد كليات التربية، وعدد كليات المعلمين، وأعداد الهيئة التدريسية، وكمية الإنفاق الحكومي على تواضعها، وتزايد عدد الطلبة، والترقي في الوسائل المعينة، وزيادة بيوت الخبرة، والترقي في وسائل الطباعة للكتاب المدرسي والإعلام التربوي والأجهزة المساندة للعملية التعليمية، ومن ثم حاولنا التعرف إلى النواتج والواقع المتخلف البئيس، فقد نصاب بالذهول حقا، وكأن تلك المواطن التي يفترض فيها أن تطلق الطاقات، وتدرب على المهارات، وتهيء مناخ الإبداع، وتبصر بالمشكلات، وتعالج قضايا الأمة، تحولت لتكون هـي مشكلة الأمة.. وبدل أن تساهم بدفع عجلة التنمية واستبانة سبلها تتحول إلى مؤسسات لتكريس التخلف وطرد الخبرات وقتل الإبداع وتحنيط التطلعات، وقد يكون إنجازها الوحيد إيجاد طبقة من أصحاب الألقاب.

          إن علل التعليم والتعلم كثيرة، ومتوضعة، ومساحتها أكبر من أن تستقرأ استقراء كاملا في هـذه العجالة، ولعلنا نقول: إن التعليم الذي يفترض فيه أن يعالج مشكلات الأمة وإشكاليات الحياة وتطورها ويسهم في تنميتها، انتهت إليه مشكلة الأمة بكل تعقيداتها وتداعياتها، لذلك فالعبء ثقيل، ولا يحتاج الإنسان إلى جهد كبير ولا إلى تأمل في العمق البعيد حتى يبصر المشكلة التعليمية، وحسبنا أن ننظر إلى الإنتاج العلمي [ ص: 20 ] والتعليمي في مجال تنمية الموارد البشرية وتوفير الاختصاصات المعرفية المطلوبة لنرى أن التعليم في تراجع، فكلما تقدمت وسائله واتسعت مدارسه ومعاهده ازداد تخلف الأمة واشتدت حاجتها إلى (الآخر) !

          ولو قمنا بعملية تعـداد نسـبي لمن يحمـلون ألقابا علمية أكاديمية، أو ألقينا نظرة على حجم الرسـائل الجامعـية للدراسات العليا في بلد واحد من بلاد العالم الإسلامي الذي يعج بالمال والإمكانات والجامعات، وما انتهى إليه حـالها من الشـلل وعدم الحراك، لأصبنا بالذهول (!) ولو حاولنا قراءة عناوين الرسائل وموضوعاتها لما احتجنا كثيرا لإدراك أسباب التخلف الحقيقية، وكيف أن جذورها تكمن في المسألة التعليمية وتغذيها، لتصبح المسألة التعليمية تخلفا مستداما.

          لقد حققت الألقاب والمناصب الأكاديمية المال والمنصب والسمعة لأصحابها، لكنها لم تحقق لأمتها إلا القليل، ولقد منحت الرسائل الجامعية الألقاب لأصحابها، لكنها في معظمها لم تشكل حراكا ثقافيا، أو تنمويا، فهي أشبه، بحجمها وقيمتها، العملـة الزائفة؛ هـي أحمال وأحجام لكنها لا تصرف شيئا، وكان يكفي عشر معشارها، لو أدركت أسباب القصور والتخلف وعرفت مواطن الخلل والتقصير في الجوانب المتعددة، لتحقيق نقله نوعية للمجتمع والأمة.

          نعاود القول: بأن الإشكالية ليست في عدد الجامعات، ولا عدد الرسائل الجامعية، ولا قلة الخريجين، ولا عدد المجلات المحكمة، ولا عدد [ ص: 21 ] كليات التربية وإعداد المعلمين، كما أنها ليست في كمية الإنفاق الحكومي، وإن كان قليلا بالنسبة لجوانب البذخ والهدر فيما لا ينفع وقد يضر ويعود على الأمة بالخبال، وإنما الإشكالية في حقيقتها يمكن أن توصف بأنها أزمة ذاتية، أو علة ذاتية، في التعليم ذاته.. هـي في الذهنية والمنهجية والنوعية.

          صحيح بأن الكثير من العلل الذاتية يجيء ثمرة لإفرازات مجتمعية؛ لأن التعليم ليس منفصلا عن حياة الأمة وواقعها ومؤسساتها، ابتداء من الأسرة وانتهاء بالدولة، يحمل أثقالها وأوزانها.. لكن الصحيح أيضا أن التعليم هـو العلاج وسبيل الخروج الوحيد، فإذا حمل التعليم أدواء المجتمع وإصاباته وعجز عن تجاوزها أصبحت الأمة كالغاص بالماء، ذلك أن إصابات المجتمع في سائر المجالات تمثل حالة الغاص بالطعام الذي يدفعه ويعالجه بالماء، أما إصابات التعليم وعجزه عن العلاج والتنمية فغصته بالماء نفسه، تلك الغصة التي قد تقضي على حياة صاحبها.

          والتفكير المطلوب والملح: كيف يمكن أن تنفلت المسألة التعليمية، وتنفك عن مناخ التخلف، وترتقي إلى مستوى العلاج؟ وهذا لا يمكن أن يتحقق ما لم نبصر العلل الذاتية للتعليم، ونحاول تخليص التعليم منها، ومن ثم نحصنه ما أمكن ضد تأثير تخلف المجتمع ليتحرك لعلاج مشكلة التخلف حركة الطبيب المحصن بين أصحاب الأمراض السارية. [ ص: 22 ]

          ولعلنا نأتي على ذكر بعض هـذه العلل، علها تشكل بعض النوافذ وتبصر بالأسباب المنتجة لحالات التخلف.

          - وقد يكون في مقدمة هـذه الإصابات غياب مراكز البحث العلمي ومراكز الدراسات والمخابر، ومراكز المعلومات، ذلك أن هـذه المؤسسات هـي التي تنتج المعرفة، وتختبرها، وتجربها، وتتيقن من صدقها، ومن ثم تأتي المدارس والمعاهد والجامعات لتكون مراكز لنشرها وتسويقها وتعليمها.. إن التنمية الحقيقية تبدأ من مراكز البحث العلمي، مراكز الكشف والملاحظة والإبداع والابتكار وإطلاق المواهب والمنافسة باتجاه كشف الحقيقة، التي تطرح الإشكاليات التنموية والمجتمعية والتعليمية، وتستخدم في إدراكها والإحاطه بعلمها التخصصات والشعب المعرفية المطلوبة كلها، وتخرج بحلول تتحول إلى الجامعات وتنتهي إلى المجتمعات، لترتقي بأدائها، وتبصرها طريقها.

          ولا أعتقد أننا أدركنا بعد وظيفة مراكز البحوث.. فعملية إنشائها عندنا - وهي هـياكل للتوظيف وتسجية الأوقات- لا تخرج عن كونها تقليدا (للآخر) ، فهي أقرب للمتاحف والمخازن والمجالس والمضافات منها لمراكز البحث العلمي، مع التسليم بأن للمتاحف وظيفة علمية وتعليمية في أنظمة التعليم المتقدمة والتنمية الاجتماعية.

          - إن التعليم عندنا يتمحور حول التلقين والحفظ وشحذ الذاكرة بعيدا عن التفكر والمقارنة والتمييز وتنمية التفكير، هـو تعليم يخرج [ ص: 23 ] ببغاوات، عقولهم في آذانهم، يساهم بامتداد حياتهم الطفلية، أو يشكل مدا لطفولتهم؛ لأن الذاكرة والحفظ أولى وظائف العقل، والتفكير والمقايسة والمقارنة أعلى مراتب التفكير، فالإصرار على الحفظ والذاكرة يعني التوقف عند أولى مراتب العقل، وعائقا يساهم بطرد أصحاب العقل والتفكير، وبذلك ينقلب التعليم من حل إلى مشكلة.

          - كما أن واقع التعليم عندنا يقوم على التكديس والحشو والتقليد والدوران في عقل السابق، بعيدا عن تنمية روح الإبداع والكشف والملاحظة والتجربة والتبصر واكتشاف الخطأ، فكيف والحالة هـذه يمكن للتعليم أن يسهم بعملية التنمية، إن لم نقل ينمي التخلف؟

          - وكيان التعليم عندنا في كثير من أحواله يقوم على النقل والتكديس والاستيراد والارتهان والتبعية والتقليد، بعيدا عن بناء القدرة على الاستنبات وبناء الشخصية الاستقلالية.

          - والتعليم عندما ما يزال يتجاهل أهمية التخصص وتقسيم العمل وتنمية التخصص واحترام التخصص وتقدير الخبرة.. ما يزال صاحب الحماس والصوت الأعلى والشخصية المنبرية هـو الشخص المميز والمعلم المميز في المدرسة والجامعة والمجتمع.. والطالب الأخرس الأطرش الأحفظ الساكن القابل بكل ما يلقى إليه دون نقاش أو حوار أو استفهام هـو الطالب المميز، فكيف يسهم هـذا الطالب وذلك المدرس في عملية التنمية والارتقاء؟ [ ص: 24 ]

          بل لعنا نقول، بكل أسف: إن واقعنا يستهين بالخبرة والتخصص، فكم من المتخصصين في عالمنا الإسلامي، وفي نطاق العاملين للإسلام، في الطب والهندسة والكيمياء والعلوم، بكل أنواعها، غادروا تخصصاتهم ليصبحوا خطباء ووعاظ، دون أن يؤهلوا لذلك، وهم بذلك يقدمون النماذج الرديئة للاسـتهانة بالمعرفة والتخصص العلمي أمام الجيل، ويعلنون عن عجزهم في السـياق العلمي وجـعل المعرفة في خدمة أهداف أمتهم، ليتحولوا إلى إيقاعات من العويل والبكاء على الأمة التي شيعوها إلى المقابر.

          - والسياسات التعليمية والمناهج هـي أقرب للشعارات والرغبات، بعيدا عن الخطط والبرامج، التي تستجيب لحاجات الأمة وتبصر بكيفية التعامل مع مشكلاتها وفهم معادلاتها الاجتماعية والتطورات الإقليمية والعالمية من حولنا.

          حتى مناهج العلوم الشرعية، التي تعتبر أم العلوم وحاديها بشكل عام، والمفترض فيها بعد هـذا الرصيد والتجارب والتاريخ والمخزون التراثي، فإنها تقوم في معظمها على التلقين والحفظ بعيدا عن تنمية الشخصية وبناء روح المبادرة والاستقلال والاجتهاد.. إنها تتمحور، إلى حد بعيد، حول حفظ النص والحديث عن عظمته ودوره في نقل المجتمعات وتنميتها [ ص: 25 ] والارتقاء بها، بعيدا عن الحديث عن فهم الاجتهاد في تنـزيله وكيفية تطبيق النص وإعماله في واقع الحياة، وبذلك ينتهي الطالب إلى نوع من الفصام الخطير، الذي يؤدي للعطالة إن لم يؤد إلى الارتكاس، بالنسبة للعاجز عن التمييز بين الصورة والحقيقة، ويرتسم أمامه السؤال الكبير: أين فعل هـذه النصوص في واقع الأمة البائس المتخلف؟

          حتى دراسة السيرة النبوية، وعظمة فعل القيم الإسلامية في حياة الناس، لا يخرج عن ذلك، وكأن هـذه العلوم أصبحت للتبرك والخروج من العهدة الشرعية.

          - وفي الوقت الذي يقوم فيه التعليم في الدول المتقدمة على التدريب وتنمية المهارات، ويرتقي بالعلوم الإنسانية والاجتماعية النظرية في أصلها إلى المجالات التطبيقية، حيث لم يعد يقتصر التدريب والتطبيق وتنمية المهارات على العلوم التجريبية، نرى في واقعنا تحول العلوم التجريبية إلى معارف نظرية وتجريدات ذهنية.

          - وقد يتحول التعليم بشكل مباشر أو غير مباشر إلى طرد الخبرات وتهجير الكفاءات المتميزة عندما يضيق بها ولا يتيح لها مناخ النمو والامتداد، ولا يوفر لها مراكز البحوث والدراسات، ولا يمنحها قيمتها الاجتماعية.. وبدل أن تكون الخبرات والمعارف والتخصصات والبحوث سبيلا للخروج من نفق التخلف وإحداث التنمية تحاول هـي الهجرة [ ص: 26 ] والخروج من مجتمعات التخلف.. وعندما لا يحترم الاختصاص، ولا تقدر المعرفة، ولا يعرف للخبراء حقهم، فمن الطبيعي أن يهجروا منابر العلم والمعرفة، ويتأسفوا على سنوات عمرهم، ويتحولوا إلى شخصيات منبرية تخاطب الجماهير والعامة، وبذلك يصيرون أدواتا لتكريس التخلف والمساهمة برحلة التيه والضياع وندب الحظ على الإنفاق على مؤسسات التعليم العقيم التي لا تنجب.

          وطالما أن التعليم يفتقد شحذ الذهن وإثارة الفاعلية وتنمية المهارات وبناء الشخصية الاستقلالية وتأسيس قيم الحرية واستشعار المسئولية وتأصيل قيم الشـورى والحـوار والمثاقفة والتدريب على النظر والاجتهاد والإبداع، فسوف يبقى خارج الحياة، ويتحول من حل إلى مشكلة، ويصبح عبئا على الأمة، يستنـزف مواردها المالية، ويعطل طاقاتها البشرية.

          ومالم ندرك أن الاستبداد بكل أشكاله هـو ثمرة التخلف، أو هـو التخلف حقيقـة، وعدو التنمـية بكل أبعادها، فسـوف نبقى نراوح في أماكننا، ونقطع أحذيتنا، ونتوهم بأننا نتقدم ونقطع المسـافات صوب أهدافنا.

          وفي تقديري أن علة العلل، في موضوع فشل مشروعات التنمية واتساع فجوة التخـلف وعجز مؤسسـات التعليم عن تقديـم الحل، [ ص: 27 ] هي عقلية الاسـتبداد بشكل عام، والاستبداد السياسي بشكل خاص.. ولا أقصد بذلك الاستبداد السياسي الذي تمارسه بعض السلطات الحاكمة والمتسلطة في العالم الإسلامي والعالم، وحتى المعارضة، وإنما سيطرة مناخ الاستبداد السياسي والاجتماعي والتربوي والتعليمي والإداري والأسري، ذلك أن الإشكـالية في ذهنية الاستـبداد، وإن كان الاستبداد السياسي أكثر ظهورا، وأعظـم تأثيرا، وأشمل مسـاحة، وأشـد أثرا على سائر الأنشطة الحياتية.

          ونستطيع القول: إن شيوع الاستبداد، وانعدام الحرية، وغياب تكافؤ الفرص، وتقديم أهل الثقة والولاء والحماس على أهل الخبرة والاختصاص، هـي التجسيد العملي لذهنية التخلف، والتمظهر الواضح لمقوماته، فالتخلف من لوازمه الاستبداد، والاستبداد من لوازم التخلف؛ ولا يستبد عمليا إلا متخلف يعاني من عقدة النقص، ولا يختار مؤسسات الاستبداد وينتهي إليها إلا المتخلف، يستبد ليستر عورته؛ فلا يتخلف إلا مستبد، لعجزه عن إدراك الأمور والإحاطة بها، وحقده على المتميزين ورغبة في الثأر منهم.

          والإنسان السوي، المفكر المتبصر العالم المثقف، لا يستطيع الاستبداد ولا يحسنه.. والمستبد يحقد بطبيعة تشكيله على كل متعلم ومتخصص [ ص: 28 ] ومفكر ومثقف وعالم وفهيم، وقد تصل به الأمور إلى التصور بأن العلم والمعرفة والتخصص أعداء وجوده واستمراره وقيادته.. ولعل الكثير من الاستبداد يورثه الحقد على الآخرين، ومحاولة التعويض بالسلطة والمال لتغطية مركب النقص الذي يعاني منه المستبد.

          وجماع القول: بأن الاستبداد أعلى أنواع التخلف، وهو نقيض التنمية والنهوض.

          فالمستبد هـو المتخلف في كل شيء إلا في تنمية وتوفير الأدوات والأساليب والفنون والتكنولوجيا المتقدمة، التي تمكن له من الاستبداد والتجسس على خصومه.. إنه متقدم في تنمية وسائل التعذيب والهيمنة والتجسس والتمكين للاستبداد؛ ويأتي في ذلك في الطليعة من الدول المتقدمة.

          لذلك، وفي هـذا المناخ الرهيب الرعيب، سوف يتحول التعليم ومؤسساته إلى مواقع خلفية، تنعدم فيها الحرية، وتقتل منها روح المبادرة والإبداع والتدريب وتشكيل المهارات، ويسودها التحميد والتمجيد والتظاهر لتأكيد الولاء.. وقد لا نستغرب في هـذا المناخ أن تتحول المدارس والجامعات إلى أبواق للسلطان، تمارس رجع الصدى لعبقريته، وتصبح أقرب لممارسة الوقيعة وإفساد الضمائر والتقاط العجزة والفاشلين، [ ص: 29 ] واستغلال أحقادهم وعقد فشلهم وتعويضهم بإغرائهم بالانخراط في مؤسسات الاستبداد للتسلط على الناس.

          ولعل من الأمور الطريفة هـنا أن نذكر أن بعض زعماء الاستبداد السياسي زار إحدى الجامعات، وجمع له الطلبة ليمارسوا الهتافات لعبقريته وإنجازاته، وليصفقوا لزعامته، فما كان منه إلا أن أعلن عن أعظم الإنجازات الجامعية، وهي تنجيح الراسبين للعام الذي كانت فيه الزيارة (!) فكيف لمثل هـذا التعليم أن يساهم بالتنمية، وكيف لمثل هـؤلاء المتعلمين أن يقودوا عملية التنمية؟

          وليس ذلك فقط، وإنما الإقدام على اقتحام التقاليد الجامعية وكسر الموازين والمعايير العلمية، وخرق شروط القبول وتجاوز معدلاته، وإدخال مجموعات من الموالين، تحت مسوغات محزنة، وذلك بإضافة درجات إلى مجاميعهم بحجة انشغالهم بالنضال الوطني؛ هـذا عدا عن المداخلات والتهديدات بضرورة نجاح هـؤلاء الأبطال القوميين! ليقوموا بخدمة بلدهم وتنميتها.

          وقد لا تكون هـذه الممارسات مستهجنة في مناخ الاستبداد والتمكين له.. وإذا أجرينا مسحا سريعا واستقراء تاريخيا، نجد أن معظم المستبدين كانوا من المتخلفين والفاشلين، علميا ودراسيا، والحاقدين على كل ناجح ومتميز.

          نعود إلى القول: إن جرثومة التخلف هـي في الاستبداد، بكل [ ص: 30 ] أشكاله، ولا أدل على ذلك من أن الكثير من الطلبة الذي يفلتون من مناخ الاستبداد ويذهبون لمتابعة دراستهم في مناخ الحرية ومؤسساته العلمية يكونون في مقدمة الطلاب، تفوقا وإبداعا وتميزا.. فالمشكلة ليست في الكفاءات وإنما في مناخ إعاقتها ووسائل قتلها.

          وبعد،

          فهذا الكتاب يمكن أن يشكل لبنة في البناء التنموي، الذي لابد أن يرتكز إلى المعرفة والعلم، كما أنه يعتبر محاولة للانفكاك من واقع التخلف إلى حد ما، والتحول من عملية الإحساس بإشكالية التخلف إلى محاولة إدراك أبعادها، ودراسة الأسباب المنشئة لها، وتحديد الموقع المسؤول عن استمرارها، والدعوة للنظر في كيفية التعامل معها، ووضع البرامج والخطط لردم فجـوة التخلف ومعالجتها، والتأكـيد أن التعليم هـو سبيل الخروج ولا سبيل سواه، وأن عجز التعليم عن العطاء إنما هـو لأسباب خارجة عنه، فلا مناص من النظر فيها ومعالجتها.

          ذلك أن معظم المفكرين والباحثين والمنظرين يرون أن إشكالية التنمية في العالم الإسلامي والعالم تكمن في نظام التعليم وآليات التربية والتنشئة، فالمسألة تكاد تكون محسومة، لكن المشكلة - فيما نرى- أن واقع التعليم وآلياته وسياساته هـو ثمرة وإفراز لذهنية الاستبداد، الذي يشكل قمة التخلف وأساسه، لكن هـذا لا يمنع من أن نقول: [ ص: 31 ] إن فساد العملية التعليمية هـو الذي أورث ذهنية الاستبداد، فهو مقدمة ونتيجة في الوقت نفسه.. ويبقى التعليم والتربية هـو التنمية.

          ومهما يكن من أمر، فإن المؤسسات المعرفية عامة، والسياسات التعليمية الهادئة المبصرة، قادرة على عزل مواقع الاستبداد وأثرها عن ضمير الأمة.. وفي تاريخنا الممتد الكثير من فترات التخلف، التي كانت تمثل تحديا واسـتفزازا، استطاعت مؤسسـات التربية والتعليم أن تحوله إلى أداة لإيقاظ الأمة وشحـذ فاعليتها، وجمع طاقاتها، ودفعها إلى التجاوز والنهوض.

          لقد كان لمؤسسات التعليم تاريخيا الدور الأساس في عمليات النهوض.

          ولا نزعم بأننا في هـذا الكتاب قدمنا الحل للإشكالية، لكننا على الأقل عمقنا الإحساس بها، الذي نأمل أن يقود إلى الإدراك، ويهدي إلى سبيل المعالجة.

          والله المستعان. [ ص: 32 ]

          التالي السابق


          الخدمات العلمية