الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير استئناف كلامي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخطر في نفسه التعجب من عدم تأثر أكثر المشركين بإنذاره فأجيب بأن إنذاره ينتفع به المؤمنون ومن تهيأوا للإيمان .

وإيراد هذه الآية عقب التي قبلها يؤكد أن المقصد الأول من التي قبلها موعظة المشركين وتخويفهم ، وإبلاغ الحقيقة إليهم لاقتلاع مزاعمهم وأوهامهم في أمر البعث والحساب والجزاء . فأقبل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب ليشعر بأن تلك المواعظ فيه وأنها إنما ينتفع بها المسلمون ، وهو أيضا يؤكد ما في الآية الأولى من التعريض بتأمين المسلمين بما اقتضاه عموم الإنذار والوعيد .

وأطلق الإنذار هنا على حصول أثره ، وهو الانكفاف أو التصديق به ، وليس المراد حقيقة الإنذار ، وهو الإخبار عن توقع مكروه لأن القرينة صادقة عن المعنى الحقيقي وهي قرينة تكرر الإنذار للمشركين الفينة بعد الفينة وما هو ببعيد عن هذه الآية ، فإن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنذر المشركين طول مدة دعوته ، فتعين أن تعلق الفعل المقصور عليه بـ الذين يخشون ربهم بالغيب تعلق على معنى حصول أثر الفعل .

[ ص: 291 ] فالمقصود من القصر أنه قصر قلب لأن المقصود التنبيه على أن لا يظن النبيء - صلى الله عليه وسلم - انتفاع الذين لا يؤمنون بنذارته ، وإن كانت صيغة القصر صالحة لمعنى القصر الحقيقي لكن اعتبار المقام يعين اعتبار القصر الإضافي . ونظير هذه الآية قوله في سورة ( يس ) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب وقوله فذكر بالقرآن من يخاف وعيد في سورة ( ق ) ، مع أن التذكير بالقرآن يعم الناس كلهم .

والغيب : ما غاب عنك ، أي الذين يخشون ربهم في خلواتهم وعند غيبتهم عن العيان ، أي الذين آمنوا حقا غير مرائين أحدا .

و " أقاموا الصلاة " أي لم يفرطوا في صلاة كما يؤذن به فعل الإقامة كما تقدم في أول سورة البقرة .

ولما كانت هاتان الصفتان من خصائص المسلمين صار المعنى : إنما تنذر المؤمنين ، فعدل عن استحضارهم بأشهر ألقابهم مع ما فيه من الإيجاز إلى استحضارهم بصلتين مع ما فيهما من الإطناب ، تذرعا بذكر هاتين الصلتين إلى الثناء عليهم بإخلاص الإيمان في الاعتقاد والعمل .

وجملة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه تذييل جار مجرى المثل . وذكر التذييل عقب المذيل يؤذن بأن ما تضمنه المذيل داخل في التذييل بادئ ذي بدء ، مثل دخول سبب العام في عمومه من أول وهلة دون أن يخص العام به ، فالمعنى : إن الذين خشوا ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة هم ممن تزكى فانتفعوا بتزكيتهم ، فالمعنى : إنما ينتفع بالنذارة الذين يخشون ربهم بالغيب فأولئك تزكوا بها ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه .

والمقصود من القصر في قوله " فإنما يتزكى لنفسه " أن قبولهم النذارة كان لفائدة أنفسهم ، ففيه تعريض بأن الذين لم يعبأوا بنذارته تركوا تزكية أنفسهم بها فكان تركهم ضرا على أنفسهم .

وجملة " وإلى الله المصير " تكميل للتذييل ، والتعريف في " المصير " [ ص: 292 ] للجنس ، أي المصير كله إلى الله سواء فيه مصير المتزكي ومصير غير المتزكي ، أي وكل يجازى بما يناسبه .

وتقديم المجرور في قوله " وإلى الله المصير " للاهتمام للتنبيه على أنه مصير إلى من اقتضى اسمه الجليل الصفات المناسبة لإقامة العدل وإفاضة الفضل مع الرعاية على الفاصلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية