الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين

                                                                                                                                                                                                                                      قدم على الذين هادوا على الفعل للدلالة على أن هذا التحريم مختص بهم لا يجاوزهم إلى غيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      والذين هادوا : اليهود ، ذكر الله ما حرمه عليهم عقب ذكر ما حرمه على المسلمين .

                                                                                                                                                                                                                                      والظفر : واحد الأظفار ، ويجمع أيضا على أظافير ، وزاد الفراء في جموع ظفر أظافر وأظافرة وذو الظفر ما له أصبع من دابة أو طائر ، ويدخل فيه الحافر والخف والمخلب ، فيتناول الإبل والبقر والغنم والأوز والبط وكل ما له مخلب من الطير ، وتسمية الحافر ظفرا مجاز .

                                                                                                                                                                                                                                      والأولى حمل الظفر على ما يصدق عليه اسم الظفر في لغة العرب ، لأن هذا التعميم يأباه ما سيأتي من قوله : ومن البقر والغنم فإن كان في لغة العرب بحيث يقال على البقر والغنم كان ذكرهما من بعد تخصيصا حرم الله ذلك عليهم عقوبة لهم على ما وقعوا فيه من الظلم كما قال تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( النساء : 160 ) .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما لا غير هذه المذكورات كلحمهما ، والشحوم يدخل فيها الثروب وشحم الكلية ، وقيل : الثروب جمع ثرب ، وهو الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش ، ثم استثنى الله سبحانه من الشحوم ما حملت ظهورهما من الشحم فإنه لم يحرمه الله عليهم ، و ما في موضع نصب على الاستثناء أو الحوايا معطوف على ظهورهما أي إلا ما حملت ظهورهما أو حملت الحوايا ، وهي المباعر التي يجتمع البعر فيها ، فما حملته من الشحم غير حرام عليهم ، وواحدها حاوية ، مثل ضاربة وضوارب ، وقيل : واحدها حاوياء مثل قاصعاء وقواصع وقيل : حوية كسفينة وسفائن وقال أبو عبيدة : الحوايا ما تحوى من البطن : أي ما استدار وهي متحوية : أي مستديرة; وقيل الحوايا : خزائن اللبن ، وهي تتصل بالمباعر وقيل الحوايا : الأمعاء التي عليها الشحوم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : أو ما اختلط بعظم معطوف على " ما " في " ما حملت " كذا قال الكسائي والفراء وثعلب ، وقيل : إن الحوايا وما اختلط بعظم معطوفة على الشحوم .

                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى : حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت ظهورهما فإنه غير محرم ولا وجه لهذا التكلف ولا موجب له لأنه يكون المعنى : إن الله حرم عليهم إحدى هذه المذكورات .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بما اختلط بعظم : ما لصق بالعظام من الشحوم في جميع مواضع الحيوان ، ومنه الإلية فإنها لاصقة بعجب الذنب ، والإشارة بقوله : ذلك إلى التحريم المدلول عليه بحرمنا أي ذلك التحريم جزيناهم به بسبب بغيهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن الإشارة إلى الجزاء المدلول عليه بقوله : جزيناهم أي ذلك الجزاء جزيناهم ، وهو تحريم ما حرمه الله عليهم وإنا لصادقون في كل ما نخبر به ، ومن جملة ذلك هذا الخبر ، وهو موجود عندهم في التوراة ، ونصها : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وكل دابة ليست مشقوقة الحافر وكل حوت ليس فيه سفاسف أي بياض انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في 147 - كذبوك لليهود : أي فإن كذبك اليهود فيما وصفت من تحريم الله عليهم تلك الأشياء فقل ربكم ذو رحمة واسعة ومن رحمته حلمه عنكم وعدم معاجلته لكم بالعقوبة في الدنيا ، وهو وإن أمهلكم ورحمكم ف لا يرد بأسه عن القوم المجرمين إذا أنزله بهم استحقوا المعاجلة بالعقوبة ، وقيل : المراد : لا يرد بأسه في الآخرة عن القوم المجرمين .

                                                                                                                                                                                                                                      والأول أولى ، فإنه سبحانه قد عاجلهم بعقوبات منها تحريم الطيبات عليهم في الدنيا ، وقيل : الضمير يعود إلى المشركين الذين قسموا الأنعام إلى تلك الأقسام وحللوا بعضها وحرموا بعضها ، وقيل : المراد : أنه ذو رحمة للمطيعين ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ولا ملجئ لهذا .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله : كل ذي ظفر قال : هو الذي ليس بمنفرج الأصابع ، يعني ليس بمشقوق الأصابع .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عنه كل ذي ظفر قال : البعير والنعامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد قال : هو كل شيء لم تنفرج قوائمه من البهائم ، وما انفرج أكلته اليهود ، قال : انفرجت قوائم الدجاج والعصافير فيهود تأكله ، ولم ينفرج خف البعير ولا النعامة ، ولا قائمة الوزينة فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوزينة ، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته كذلك ، ولا تأكل حمار الوحش .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس ، في قوله : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما يعني ما علق بالظهر من الشحم أو الحوايا هي المبعر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن أبي صالح في قوله : إلا ما حملت ظهورهما قال : الألية أو الحوايا قال : المبعر أو ما اختلط بعظم قال : الشحم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن مجاهد في قوله : أو الحوايا قال : المباعر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم ، عن الضحاك ، أو الحوايا قال : المرائض والمباعر .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن المنذر ، وأبو [ ص: 456 ] الشيخ عن ابن عباس ، أو ما اختلط بعظم قال : الألية اختلط شحم الألية بالعصعص فهو حلال وكل شحم القوائم والجنب والرأس والعين والأذن يقولون قد اختلط ذلك بعظم فهو حلال لهم ، إنما حرم عليهم الثرب وشحم الكلية وكل شيء كان كذلك ليس في عظم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : فإن كذبوك قال : اليهود .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن السدي ، قال : كانت اليهود يقولون : إن ما حرمه إسرائيل فنحن نحرمه ، فذلك قوله : فإن كذبوك الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية