الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ينبغي أن يكون الغاسل أمينا لما روي عن ابن عمر أنه قال : " { لا يغسل موتاكم إلا المأمونون } " ولأنه إذا لم يكن أمينا لم نأمن أن لا يستوفي الغسل ، وربما ستر ما يظهر من جميل أو يظهر ما يرى من قبيح ، ويستحب أن يستر الميت من العيون ، لأنه قد يكون في بدنه عيب كان يكتمه ، وربما اجتمع في موضع من بدنه دم فيراه من لا يعرف ذلك فيظنه عقوبة وسوء عاقبة ، ويستحب أن لا يستعين بغيره إن كان فيه كفاية فإن احتاج إلى معين استعان بمن لا بد له منه ، ويستحب أن يكون بقربة مجمرة حتى إن كانت له رائحة لم تظهر والأولى أن يغسل في قميص ، لما روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " غسلوه وعليه قميص يصبون عليه الماء ويدلكونه من فوقه " ولأن ذلك أستر فكان أولى ، والماء البارد أولى من المسخن ، لأن البارد يقويه والمسخن يرخيه ، وإن كان به وسخ لا يزيله إلا المسخن ، أو البرد شديد - ويخاف الغاسل من استعمال البارد - غسله بالمسخن ، وهل يجب نية الغسل ؟ فيه وجهان ( إحداهما ) لا يجب لأن القصد منه التنظيف فلم يجب فيه النية كإزالة النجاسة ( والثاني ) يجب لأنه تطهير لا يتعلق بإزالة عين فوجب فيه النية كغسل الجنابة ، ولا يجوز للغاسل أن ينظر إلى عورته ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه " لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " ويستحب أن لا ينظر إلى سائر بدنه إلا فيما لا بد له منه ، ولا يجوز أن يمس عورته لأنه إذا لم يجز النظر فالمس أولى ، والمستحب أن لا يمس سائر بدنه ، لما روي أن عليا رضي الله عنه " غسل النبي صلى الله عليه وسلم وبيديه خرقة يتتبع بها تحت القميص " ) .

                                      [ ص: 127 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الأثر المذكور عن ابن عمر رواه ابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم { ليغسل موتاكم المأمونون } " إلا أن إسناده ضعيف ، وحديث عائشة رواه أبو داود بإسناد صحيح ، إلا أن فيه محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، قال : حدثني يحيى عن ابن عباد ، وقد اختلفوا في الاحتجاج به ، فمنهم من احتج به ، ومنهم من جرحه ، والذي يقتضيه كلام كثير منهم أو أكثرهم أن حديثه حسن إذا قال حدثني وروى عن ثقة ، فحديثه هذا حسن والله أعلم . [ ص: 125 ] وأما حديث علي رضي الله عنه " { لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت } " فسبق في باب ستر العورة أن أبا داود وغيره رووه وأنه ضعيف .

                                      وأما حديثه الآخر فرواه البيهقي ، والمجمرة بكسر الميم الأولى وقوله ( تطهير لا يتعلق بإزالة عين ) احتراز من إزالة النجاسة . والفخذ بفتح الفاء وكسر الخاء ويجوز إسكان الخاء مع فتح الفاء وكسرها ويجوز كسرهما جميعا ، فهذه أربعة أوجه في الفخذ ، وما كان على وزنه مما ثانيه وثالثه حرف حلق .

                                      ( أما الأحكام ) فينبغي أن يكون الغاسل أمينا ، فإن غسل الفاسق وقع الموقع ولا يجب إعادته ، ويستحب نقله إلى موضع خال وستره عن العيون ، وهذا لا خلاف فيه ، وهل يستحب غسله تحت السماء ؟ أم تحت سقف ؟ فيه وجهان حكاهما صاحب الحاوي وغيره ( الصحيح ) منهما تحت سقف ، وليس للغسل تحت السماء معنى ، وإن كان احتج له بما لا حجة فيه ، وقطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والجرجاني في التحرير وصاحب العدة وغيرهم بأن الأفضل تحت سقف ، وهو المنصوص في الأم . قال أصحابنا : ويستحب أنلا يحضره إلا الغاسل ، ومن لا بد له من معونته عند الغسل ، قال أصحابنا : وللولي أن يدخل ، وإن لم يغسل ولم يعن ، ويستحب أن يكون عنده مجمرة فيها بخور تتوقد من حين يشرع في الغسل إلى آخره . قال صاحب البيان : قال بعض أصحابنا : ويستحب أن يبخر عند الميت من حين يموت ، لأنه ربما ظهر منه شيء ، فيغلبه رائحة البخور ، ويستحب أن يغسل في قميص يلبسه عند إرادة غسله ، هذا هو الصحيح ، الذي نص عليه الشافعي ، وقطع به الأصحاب في كل طرقهم . وحكى الرافعي وجها عن حكاية ابن كج أن الأفضل أن يجرد ويغسل بلا قميص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، والصواب الأول ، قال الشافعي والأصحاب : وليكن القميص رقيقا سخيفا ، قال أصحابنا ويدخل الغاسل يده في كميه ويصب الماء من فوق القميص ، ويغسل من تحته ، قالوا : فإن لم [ ص: 126 ] تكن أكمام القميص واسعة فتق فوق الدخاريص موضعا ، وأدخل يده فيه وغسله ، فإن لم يكن القميص واسعا يمكن تقليبه فيه نزع عنه وطرح عليه مئزر يغطي ما بين سرته وركبته ، وذكر جماعة أنه إذا لم يكن قميص طرح عليه ثوب يستر جميع البدن ، فإن لم يكن طرح عليه ما يستر ما بين سرته وركبته ، واتفقوا على وجوب تغطية ما بين سرته وركبته .

                                      ( فإن قيل ) معتمد الشافعي والأصحاب في استحباب الغسل في قميص ، حديث عائشة المذكور ، وهو مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ودليله أن في سنن أبي داود في هذا قالوا : نجرده كما نجرد موتانا ، فهذا إشارة إلى أن عادتهم تجريد موتاهم .

                                      ( فالجواب ) ما أجاب به الأصحاب أن ما ثبت كونه سنة في حقه صلى الله عليه وسلم فهو سنة أيضا في حق غيره حتى يثبت التخصيص والذي فعل به صلى الله عليه وسلم هو الأكمل والله أعلم . قال أصحابنا : وغسله بالماء البارد أفضل من المسخن إلا أن يحتاج إلى المسخن لخوف الغاسل من البرد أو الوسخ على الميت ونحوه أو ما أشبه ذلك ، فيغسل بالمسخن . قال السرخسي وغيره : ولا يبالغ فيه لئلا يسرع إليه الفساد . قال الشافعي والأصحاب : ويحضر الغاسل أو غيره قبل الشروع في الغسل ثلاثة آنية فيجعل الماء في إناء كبير ، ويبعده عن المغتسل بحيث لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل ويكون معه إناءان آخران صغير ومتوسط . يغرف بالصغير من الكبير ويصبه في المتوسط ثم يغسله بالمتوسط وفي وجوب نية الغسل وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما . والمراد بهما أنه هل يشترط في صحة غسله أن ينوي الغاسل غسله ؟ واختلف في أصحهما فالأصح عند الأكثرين أنها لا تشترط ولا تجب وهو المنصوص للشافعي في آخر غسل الذمية زوجها المسلم وممن صححه البندنيجي والماوردي هنا والروياني والسرخسي والرافعي وآخرون . وصحح جماعة الاشتراط منهم الماوردي والفوراني والمتولي ، ذكروه في باب نية الوضوء وقطع به المحاملي في المقنع ، والمصنف في التنبيه والصحيح تصحيح الأول . قال الشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان : صفة النية أن ينوي بقلبه عند إفاضة الماء القراح أنه غسل واجب قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد : ينوي الغسل الواجب أو الفرض أو غسل الميت .



                                      [ ص: 127 ] فرع ) قال المصنف والأصحاب : لا يجوز للغاسل أو لغيره مس شيء من عورة المغسول ، ولا النظر إليها ، بل يلف على يده خرقة ، ويغسل فرجه وسائر بدنه ، ويستحب أن لا ينظر إلى غير العورة إلا إلى ما لا بد له منه في تمكنه من غسله ، وكذا يستحب أن لا يمسه بيده ، فإن نظر إليه أو مسه بلا شهوة لم يحرم بل هو تارك للأولى . وقال بعض أصحابنا : يكره له ذلك ، وأما غير الغاسل من المعين وغيره فيكره لهم النظر إلى ما سوى العورة إلا لضرورة ، لأنه لا يؤمن أن ينكشف من العورة في حال نظره ، أو يرى في بدنه شيئا كان يكرهه ، أو يرى سوادا أو دما مجتمعا ونحو ذلك فيظنه عقوبة ، قال الشيخ أبو حامد : لأنه يستحب أن لا ينظر إلى بدن الحي فالميت أولى ، هذا تلخيص أحكام الفصل ودلائله تعرف مما ذكره المصنف مع ما أشرت إليه ، وبالله التوفيق .



                                      ( فرع ) قال ابن المنذر : اختلفوا في تغطية وجه الميت ، يعني حال غسله فاستحب ابن سيرين وسليمان بن يسار وأيوب السختياني تغطيته بخرقة ، وقال مالك والثوري والشافعي : يغطي فرجه ولم يذكروا وجهه .



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في الغسل في قميص . مذهبنا استحبابه ، وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة ومالك : المستحب غسله مجردا ، وقال داود : هما سواء ، .



                                      ومذهبنا استحباب غسله بالماء البارد إلا لحاجة إلى المسخن وبه قال أحمد ، وقال أبو حنيفة : المسخن أفضل ، وليس عن مالك تفصيل ، دليلنا ما ذكره المصنف .




                                      الخدمات العلمية