الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ويوم يعض الظالم على يديه قال الطبرسي: العامل في ( يوم ) اذكر محذوفا، ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله، والظاهر أن أل في الظالم للجنس، فيعم كل ظالم، وحكى ذلك أبو حيان ، عن مجاهد وأبي رجاء ، وذكر أن المراد بفلان - فيما بعد - الشيطان، وقيل: لتعريف العهد، والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط - لعنه الله تعالى - وبفلان أبي بن خلف ، فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعجبه حديثه، وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طعامه فقال: «ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: اطعم يا ابن أخي فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه» فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة ؟! وكان خليله، فقال: والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا - وذكر فعلا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين - ففعل عقبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف » .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية: « إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا » فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: اخرج معنا قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه، فخرج معهم فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض فأخذ أسيرا في سبعين من قريش ، وقدم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 12 ] وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح بأن يضرب عنقه، فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم، قال: بم؟ قال: بكفرك وفجورك وعتوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه.


                                                                                                                                                                                                                                      وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال: والله لأقتلن محمدا - صلى الله عليه وسلم - فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال: «بل أقتله إن شاء الله تعالى» فأفزعه ذلك وقال لمن أخبره: أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال نعم، فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا، فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه، فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه، فلما رأى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: خلوا عنه، فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير، واحتقن الدم في جوفه، فخر يخور كما يخور الثور، فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور، فقالوا: ما هذا؟! فوالله ما بك إلا خدش، فقال: والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني، أليس قد قال: أنا أقتله، والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم، فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف ، وفلان عقبة، وعض اليدين إما على ظاهره، وروي ذلك عن الضحاك وجماعة قالوا: يأكل يديه إلى المرفق، ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت، وإما كناية عن فرط الحسرة والندامة، وكذا عض الأنامل، والسقوط في اليد، وحرق الأسنان والأدم ونحوها؛ لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف، وفي المثل: يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما، وقال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      أبى الضيم والنعمان يحرق نابه عليه فأفضى والسيوف معاقله



                                                                                                                                                                                                                                      والفعل عض على وزن فعل مكسور العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح العين.

                                                                                                                                                                                                                                      يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا الجملة مع موضع الحال من الظالم، أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها، و ( يا ليتني ) إلخ، مقول القول، ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني، وأل في ( الرسول ) إما للجنس فيعم كل رسول، وإما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد، وتنكير ( سبيلا ) إما للشيوع أو للوحدة، وعدم تعريفه لادعاء تعينه، أي يا ليتني اتخذت طريقا إلى النجاة، أي طريق كان أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية