الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ لا دية لمن اطلع على قوم فأتلفوا عينه ]

المثال الثالث والأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [ ص: 256 ] { لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح } متفق عليه ، وفي أفراد مسلم : { من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا عينه } وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد : { اطلع رجل من جحر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه مدرى يحك بها رأسه ، فقال : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك ، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر } وفي صحيح مسلم عن أنس : " أن رجلا { اطلع من بعض حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه بمشقص ، أو بمشاقص .

قال : وكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله ليطعنه
} ، وفي سنن البيهقي بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصابوا عينه فلا دية له ولا قصاص } فردت هذه السنن بأنها خلاف الأصول ; فإن الله إنما أباح قلع العين بالعين ، لا بجناية النظر ، ولهذا لو جنى عليه بلسانه لم يقطع ، ولو استمع عليه بإذنه لم يجز أن يقطع أذنه ، فيقال : بل هذه السنن من أعظم الأصول ; فما خالفهما فهو خلاف الأصول ، وقولكم : " إنما شرع الله سبحانه أخذ العين بالعين " فهذا حق في القصاص ، وأما العضو الجاني المتعدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلا برميه ، فإن الآية لا تتناوله نفيا ولا إثباتا ، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانا ابتدائيا لما سكت عنه القرآن ، لا مخالفا لما حكم به القرآن ، وهذا اسم آخر غير فقء العين قصاصا ، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل ; إذ المقصود دفع ضرر صياله ، فإذا اندفع بالعصا لم يدفع بالسيف .

وأما هذا المتعدي بالنظر المحرم الذي لا يمكن الاحتراز منه ، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل ; فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانه ، ولا يقع هذا غالبا إلا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه ; فلو كلف المنظور إليه إقامة البينة على جنايته لتعذرت عليه ، ولو أمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حريمه هدرا ، والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا ; فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا معارض لها ولا دافع لصحتها من حذف ما هنالك ، وإن لم يكن هناك بصر عاد لم يضر خذف الحصاة ، وإن كان هنالك بصر عاد لا يلومن إلا نفسه ; فهو الذي عرضه صاحبه للتلف ، فأدناه إلى الهلاك ، والخاذف ليس بظالم له ، والناظر خائن ظالم ، والشريعة أكمل وأجل من أن تضيع حق هذا الذي قد هتكت حرمته وتحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البينة ; فحكم الله فيه بما شرعه على لسان رسوله ، { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } .

التالي السابق


الخدمات العلمية