الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 1320 ] إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين بين الله سبحانه وتعالى بطلان ما كان يحتج به أهل الكتاب في الآيات السابقة، ورد عليهم بما يرشدهم إلى الصواب لو كانوا طلاب هداية، وباحثين عن الحقيقة لا يبغونها عوجا، وفي هذه الآية وما وليها، يرشدهم إلى الأمر الجامع الذي يلتقون فيه مع العرب، وهو الاتصال بإبراهيم الذي يعتزون بنسبتهم إليه، وهو جد إسرائيل الذي كان منه الأسباط، وكان منه عن طريقهم من ينتمي إليهم من النبيين الذين أنشأوا بيت المقدس، وأقاموا الدولة المقدسة في الأرض المقدسة، والتي لم يحسن اليهود من بعدهم القيام عليها، بل عثوا فيها بالفساد، حتى مزقهم بختنصر شر ممزق، وشرد الرومان بعد ذلك بهم من خلفهم، حتى جاء المسلمون فأعادوا إلى الوادي المقدس شريعة الله المقدسة، وهي الإسلام الذي كتب له أن يعمره بها إلى يوم القيامة : وكان أمرا مقضيا ولقد ذكر الله سبحانه ذلك الأمر الجامع في بيان شرف بيت الله الحرام فقال: [ ص: 1321 ] إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا البيت:المقصود به هنا هو البيت الحرام، وهو الحرم المكي العامر إلى يوم القيامة، وقد عرفه بأنه الذي ببكة، وبكة هي مكة. وفي لغة العرب قلب الميم باء في أحوال كثيرة من غير انضباط، ولقد جاء في تفسير الزمخشري ما نصه: " مكة وبكة لغتان فيها، نحو قولهم: النبيط والنميط في اسم موضع بالدهناء، ونحو: من الاعتقاب أمر راتب، وراتم، وحمى مغمطة ومغبطة. وقيل: مكة:البلد، وبكة: موضع المسجد، وقيل اشتقاقها من بكه إذا زحمه؛ لازدحام الناس فيها " . وقيل: بك بمعنى دك؛ وذلك لأن الله يدق عنق كل من يرومها بسوء.

                                                          وعرف البيت بأنه الذي ببكة للإشارة إلى أن مكة ذاتها هي مثابة الشريعة الباقية وهي شريعة النبيين أجمعين، وهي خالدة إلى يوم القيامة، وهي الإسلام جماع كل الشرائع السماوية؛ وهو الذي وصى الله به إبراهيم وموسى وعيسى .

                                                          وما معنى أولية البيت الحرام؛ أهي أوليته من ناحية أنه أول بيت بني للعبادة؟ أم أنه أول بيت بني بإطلاق.

                                                          قيل: إنه أول بيت بني في الأرض؛ فقيل: إن الملائكة بنته لآدم؛ كما ورد في بعض الآثار؛ وليس ثمة مانع عقلي؛ إن الذي يبدو من خلال الآيات: أنه أول بيت من بيوت العبادة القائمة؛ فهو أسبق من بيت المقدس وجودا؛ وهو أجمع للديانات السماوية من بيت المقدس؛ لأن إبراهيم أبا الأنبياء أصحاب هذه الشرائع الباقية هو الذي بناه؛ بينما بني بيت المقدس في عهد داود وسليمان عليهما السلام . [ ص: 1322 ] فوجود مقام إبراهيم بالبيت الحرام، وآثار أقدامه الشريفة دليل على مكانة هذا البيت من ملة إبراهيم عليه السلام، وأما ما يدعيه اليهود من وجود آثار هيكل سليمان تحت المسجد الأقصى، فلم يقم عليه دليل ولا بينة.

                                                          ووصفه سبحانه وتعالى بأنه مبارك؛ أي: فائض الخيرات كثير الثمرات المادية والمعنوية؛ فمن بركاته المادية أنه يفد إليه الحجيج من كل فج عميق؛ ويعتمرون فيه في كل أيام أشهر السنة، حتى أنه لا يمر عليه يوم من غير وفود تجيء إليه، ومع هذه الوفود خيرات الأرض؛ وكان ذلك إجابة لدعاء إبراهيم في قوله تعالى: ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون

                                                          وقد كان في البيت تلك البركة المادية بتلك الوفود؛ وبالثمرات التي كانت في باطن الأرض حوله أو على مقربة منه فقد كشفت على مقربة منه فلزات الأرض وسيول الغاز، مما كان خيرا وبركة على سدنته ومن يعيشون حوله، وبذلك أجاب الله- تعالى- دعاء إبراهيم عليه السلام، وبقي على الذين يتنعمون بهذه الثمرات أن يشكروا الله: " لعلهم يشكرون " .

                                                          هذه هي البركة المادية، أما البركة المعنوية فهي أنه موضع لأكبر عبادة جامعة وهي الحج، وهو مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وفيه منازل وحيه، وإليه يتجه الناس في كل بقاع الأرض، وتلتقي عنده قلوب الأجناس والألوان المختلفة في عباداتهم، ولذا وصفه سبحانه بقوله: وهدى للعالمين

                                                          هذا عطف على قوله سبحانه " مباركا " أي أن الله سبحانه وتعالى جمع لهذا البيت الكريم حالتين خاصتين به لم تجتمعا في بيت غيره، فهو قد اشتمل على البركة المادية والمعنوية، وحماه الله تعالى من اعتداء المعتدين، ولهذا قال: " وهدى للعالمين " أي: هو بذاته مصدر هداية للعالمين، أي: للناس أجمعين؛ ففي وسط الشرك كانوا يلتحمون ويتقاتلون حوله، فإذا جاءوا إليه كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو أبيه فلا يمسه بسوء لعظم حرمة البيت في قلبه، وإن مس الشرك نفسه. [ ص: 1323 ] والذين أرادوه بسوء ما إن جاءوا إليه حتى ارتدوا على أدبارهم خاسئين؛ وبذلك ثبتت حرمته، وأشع نوره لغير العرب، كما امتلأت قلوب العرب بحرمته، وبعد الإسلام كان قبلة المسلمين في كل العالمين ومزارهم وموضع مؤتمرهم الأكبر، وإلى البيت الحرام يأرز الإسلام، فكون هذا البيت العتيق مصدر هداية ثبت جاهلية وإسلاما، وهدايته في الإسلام مطلقة، وهدايته في الجاهلية نسبية:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية