الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        الدين هل يمنع وجوب الزكاة ؟ فيه ثلاثة أقوال . أظهرها - وهو المذهب والمنصوص في أكثر الكتب الجديدة - : لا يمنع ، والثاني : يمنع ، قاله في القديم واختلاف العراقيين ، والثالث : يمنع في الأموال الباطنة ، وهي الذهب والفضة ، وعروض التجارة ، ولا يمنع في الظاهرة وهي الماشية ، والزرع ، والثمر ، والمعدن ؛ لأن هذه نامية بنفسها ، وهذا الخلاف جار ، سواء كان الدين حالا أو مؤجلا ، وسواء كان من جنس المال أم لا ، هذا هو المذهب . وقيل : إن قلنا : يمنع عند اتحاد الجنس ، فعند اختلافه وجهان . فإذا قلنا : الدين يمنع فأحاطت بالرجل ديون وحجر عليه القاضي ، فله ثلاثة أحوال .

                                                                                                                                                                        أحدها : أن يحجر عليه ويفرق ماله بين الغرماء ، فيزول ملكه ولا زكاة ، والثاني : أن يعين لكل غريم شيئا من ملكه ، ويمكنهم من أخذه ، فحال الحول قبل أخذهم - فالمذهب الذي قطع به الجمهور : لا زكاة عليه أيضا ؛ لضعف ملكه ، وقيل : فيه خلاف المغصوب ، وقيل : خلاف اللقطة في السنة الثانية ، قاله القفال .

                                                                                                                                                                        الثالث : أن لا يفرق ماله ، ولا يعين لكل واحد شيئا ، ويحول الحول في دوام الحجر ، ففي وجوب الزكاة ثلاثة طرق ، أصحها أنه على الخلاف في المغصوب ، والثاني : القطع بالوجوب ، والثالث : القطع بالوجوب في المواشي ؛ لأن الحجر لا يؤثر في نمائها . وأما الذهب والفضة فعلى الخلاف ؛ لأن نماءهما بالتصرف ، وهو ممنوع منه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، ففي علته وجهان . أصحهما : ضعف ملك المديون ، [ ص: 198 ] والثاني أن مستحق الدين تلزمه الزكاة . فلو أوجبناها على المديون أيضا أدى ذلك إلى تثنية الزكاة في المال الواحد . ويتفرع على الوجهين مسائل .

                                                                                                                                                                        أحدها : لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي ، فعلى الوجه الأول : لا تجب . وعلى الثاني : تجب .

                                                                                                                                                                        الثانية : لو كان الدين حيوانا بأن ملك أربعين شاة سائمة ، وعليه أربعون شاة سلما ، فعلى الأول لا تجب ، وعلى الثاني : تجب . ومثله : لو أنبتت أرضه نصابا من الحنطة وعليه مثله سلما .

                                                                                                                                                                        الثالثة : لو ملك نصابا والدين الذي عليه دون نصاب ، فعلى الأول : لا زكاة ، وعلى الثاني : تجب ، كذا أطلقوه . ومرادهم : إذا لم يملك صاحب الدين غيره من دين أو عين ، فلو ملك ما يتم النصاب ، فعليه الزكاة باعتبار هذا المال . وقطع الأكثرون في هذه الصورة بما يقتضيه الأول . ولو ملك بقدر الدين مما لا زكاة فيه كالعقار وغيره وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا على المذهب ، وقيل : لا تجب بناء على علة التثنية . ولو زاد المال الزكوي على الدين ، فإن كان الفاضل نصابا ، وجبت الزكاة فيه . وفي الباقي القولان ، وإلا لم تجب على هذا القول ، لا في قدر الدين ولا في الفاضل .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        ملك أربعين شاة ، فاحتاج من يرعاها ، فحال الحول ، فإن استأجره بشاة معينة من الأربعين مختلطة بباقيها ، وجب شاة على الراعي ، منها جزء من أربعين جزءا ، والباقي على المستأجر . وإن كانت منفردة ، فلا زكاة على واحد منهما . وإن استأجره بشاة في الذمة ، فإن كان للمستأجر مال آخر يفي بها ، وجبت الزكاة في الأربعين ، وإلا فعلى القولين في أن الدين هل يمنع وجوبها ؟

                                                                                                                                                                        [ ص: 199 ] فرع

                                                                                                                                                                        إذا ملك مالين زكويين ، كنصاب من الغنم ونصاب من البقر ، وعليه دين ، نظر ، إن لم يكن الدين من جنس ما يملكه ، قال في التهذيب : يوزع عليهما . فإن خص كل واحد ما ينقص به عن النصاب فلا زكاة على القول الذي تفرع عليه . وذكر أبو القاسم الكرخي وصاحب " الشامل " أنه يراعى الأغبط للمساكين ، كما لو ملك مالا آخر غير زكوي ، صرفنا الدين إليه رعاية لحقهم .

                                                                                                                                                                        وحكي عن ابن سريج ما يوافق هذا . وإن كان الدين من جنس أحد المالين ، فإن قلنا : الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه ، فالحكم كما لو لم يكن من جنس أحدهما ، وإلا اختص بالجنس .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا : الدين يمنع الزكاة ، فسواء دين الله عز وجل ، ودين الآدمي ، فلو ملك نصاب ماشية أو غيرها ، فنذر التصدق بهذا المال ، أو بكذا من هذا المال ، فمضى الحول قبل التصدق - فطريقان . أصحهما : القطع بمنع الزكاة ؛ لتعلق النذر بعين المال . والثاني أنه على الخلاف في الدين . ولو قال : جعلت هذا المال صدقة ، أو هذه الأغنام ضحايا ، أو لله علي أن أضحي بهذه الشاة ، وقلنا : تتعين للتضحية بهذه الصيغة - فالمذهب : لا زكاة ، وقيل : على الخلاف . ولو نذر التصدق بأربعين من الغنم ، أو بمائة درهم ولم يضف إلى ماشيته ودراهمه ، فإن قلنا : دين الآدمي لا يمنع ، فهذا أولى ، وإلا فوجهان أصحهما عند الإمام لا يمنع ؛ لأن هذا الدين لا مطالبة به في الحال ، فهو أضعف ؛ ولأن النذر يشبه [ ص: 200 ] التبرعات ، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره ، فالوجوب به أضعف . ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه ، هل يكون وجوب الحج دينا مانعا من الزكاة ؟ حكمه حكم دين النذر الذي تقدم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا قلنا : الدين لا يمنع الزكاة ، فمات قبل الأداء ، واجتمع الدين والزكاة في تركته - ففيه ثلاثة أقوال أظهرها أن الزكاة تقدم كما تقدم في حال الحياة ، ثم يصرف الباقي إلى الغرماء . والثاني : يقدم دين الآدمي كما يقدم القصاص على حد السرقة . والثالث : يستويان فيوزع عليهما . وقيل : تقدم الزكاة المتعلقة بالعين قطعا ، والأقوال في اجتماع الكفارات وغيرها فيما يسترسل في الذمة مع حقوق الآدميين . وقد تكون الزكاة من هذا القبيل بأن يتلف ماله بعد الوجوب والإمكان ، ثم يموت وله مال ، فإن الزكاة هنا متعلقة بالذمة .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية