الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3574 ) فصل : في من يصح ضمانه ، ومن لا يصح ، يصح ضمان كل جائز التصرف في ماله ، سواء كان رجلا أو امرأة ; لأنه عقد يقصد به المال ، فصح من المرأة كالبيع ، ولا يصح من المجنون والمبرسم ، ولا من صبي غير مميز ، بغير خلاف ; لأنه إيجاب مال بعقد ، فلم يصح منهم ، كالنذر . ولا يصح من السفيه المحجور عليه .

                                                                                                                                            ذكره أبو الخطاب ، وهو قول الشافعي . وقال القاضي : يصح ، ويتبع به بعد فك الحجر عنه ; لأن من أصلنا أن إقراره صحيح يتبع به من بعد فك الحجر عنه ، صح ، فكذلك ضمانه . والأول أولى ; لأنه إيجاب مال بعقد ، فلم يصح منه ، كالبيع والشراء ، ولا يشبه الإقرار ; لأنه إخبار بحق سابق .

                                                                                                                                            وأما الصبي المميز ، فلا يصح ضمانه ، في الصحيح من الوجهين . وهو قول الشافعي . وخرجه أصحابنا على الروايتين في صحة إقراره وتصرفاته بإذن وليه ، ولا يصح هذا الجمع ; لأن هذا التزام مال لا فائدة له فيه ، فلم يصح منه ، كالتبرع والنذر ، بخلاف البيع . وإن اختلفا في وقت الضمان بعد بلوغه ، فقال الصبي : قبل بلوغي .

                                                                                                                                            وقال المضمون له : بعد البلوغ . فقال القاضي : قياس قول أحمد أن القول قول المضمون له ; لأن معه سلامة العقد ، فكان القول قوله ، كما لو اختلفا في شرط فاسد . ويحتمل أن القول قول الضامن ; لأن الأصل عدم البلوغ ، وعدم وجوب الحق عليه . وهذا قول [ ص: 349 ] الشافعي . ولا يشبه هذا ما إذا اختلفا في شرط فاسد ; لأن المختلفين ثم متفقان على أهلية التصرف ، والظاهر أنهما لا يتصرفان إلا تصرفا صحيحا ، فكان قول مدعي الصحة هو الظاهر ، وهاهنا اختلفا في أهلية التصرف ، وليس مع من يدعي الأهلية ظاهر يستند إليه ، ولا أصل يرجع إليه ، فلا ترجح دعواه .

                                                                                                                                            والحكم في من عرف له حال جنون ، كالحكم في الصبي ، وإن لم يعرف له حال جنون ، فالقول قول المضمون له ; لأن الأصل عدمه ، فأما المحجور عليه لفلس ، فيصح ضمانه ، ويتبع به بعد فك الحجر عنه ; لأنه من أهل التصرف ، والحجر عليه في ماله ، لا في ذمته ، فأشبه الراهن ، فصح تصرفه فيما عدا الرهن ، فهو كما لو اقترض أو أقر أو اشترى في ذمته . ولا يصح ضمان العبد بغير إذن سيده ، سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له . وبهذا قال ابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يصح ، ويتبع به بعد العتق . وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي ; لأنه من أهل التصرف ، فصح تصرفه بما لا ضرر على السيد فيه ، كالإقرار بالإتلاف . ووجه الأول ، أنه عقد تضمن إيجاب مال ، فلم يصح بغير إذن ، كالنكاح . وقال أبو ثور : إن كان من جهة التجارة جاز ، وإن كان من غير ذلك لم يجز . فإن ضمن بإذن سيده ، صح ; لأن سيده لو أذن له في التصرف صح .

                                                                                                                                            قال القاضي : وقياس المذهب تعلق المال برقبته . وقال ابن عقيل : ظاهر المذهب وقياسه أنه يتعلق بذمة السيد . وقال أبو الخطاب : هل يتعلق برقبته أو بذمة سيده ؟ على روايتين ، كاستدانته بإذن سيده .

                                                                                                                                            وقد سبق الكلام فيها . فإن أذن له سيده في الضمان ليكون القضاء من المال الذي في يده ، صح ، ويكون ما في ذمته متعلقا بالمال الذي في يد العبد ، كتعلق حق الجناية برقبة الجاني ، كما لو قال الحر : ضمنت لك الدين ، على أن تأخذ من مالي هذا . صح . وأما المكاتب فلا يصح ضمانه بغير إذن سيده ، كالعبد القن ; لأنه تبرع بالتزام مال ، فأشبه نذر الصدقة بغير مال .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يصح ، ويتبع به بعد عتقه ، كقولنا في العبد . وإن ضمن بإذنه ، ففيه وجهان ; أحدهما ، لا يصح أيضا ; لأنه ربما أدى إلى تفويت الحرية . والثاني ، يصح ; لأن الحق لهما ، لا يخرج عنهما . فأما المريض ، فإن كان مرضه غير مخوف ، أو غير مرض الموت ، فحكمه حكم الصحيح . وإن كان مرض الموت المخوف ، فحكم ضمانه حكم تبرعه ، يحسب من ثلثه ; لأنه تبرع بالتزام مال لا يلزمه ، ولم يأخذ عنه عوضا ، فأشبه الهبة .

                                                                                                                                            وإذا فهمت إشارة الأخرس ، صح ضمانه ; لأنه يصح بيعه وإقراره وتبرعه ، فصح ضمانه ، كالناطق ، ولا يثبت الضمان بكتابة منفردة عن إشارة يفهم بها أنه قصد الضمان ; لأنه قد يكتب عبثا أو تجربة ، فلم يثبت الضمان به مع الاحتمال . ومن لا تفهم إشارته لا يصح منه الضمان ; لأنه لا يدري بضمانه ، ولأنه لا يصح سائر تصرفاته ، فكذلك ضمانه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية