الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون ؛ فيها عدة قراءات في لفظ: " ادارك " ؛ فقرئت من غير مد؛ " ادرك " ؛ وقرئت: " أدرك " ؛ وكلها قراءات يتقارب معناها؛ ولا يتباعد؛ ولنا أن " ادارك " ؛ أصلها: " تدارك " ؛ قلبت التاء دالا؛ وأدغمت الدال في الدال؛ وأتى بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن؛ ومعنى " ادارك " ؛ تلاحق؛ وتضافر العلم؛ ولنا فيها تخريجان؛ وكلاهما معقول؛ [ ص: 5477 ] أولهما أن تلاحق العلم في الدنيا؛ فقد تلاحقت الأدلة على إمكان البعث؛ والحياة في الآخرة؛ مثل قوله (تعالى): كما بدأكم تعودون ؛ وقوله (تعالى): من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ؛ وقوله (تعالى): قل كونوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة

                                                          وهكذا كثير من الآيات الكريمات التي تبين قرب العودة؛ وأنها غير مستحيلة؛ بل إنها واجبة; لأن الله ما خلق الإنسانية عبثا؛ كما قال (تعالى): أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون ؛ إنها واجبة.

                                                          التخريج الثاني: أن يكون ذلك العلم المتدارك المتلاحق في الآخرة؛ إذ يكون الحس بالبعث؛ ويكون الحساب والثواب والعقاب؛ وتشهد عليهم ألسنتهم وسائر جوارحهم؛ ويكون العلم اليقيني في الآخرة؛ ويرشح لهذا قوله (تعالى): في الآخرة ؛ لأنه يفيد أن ذلك التلاحق العلمي في الآخرة.

                                                          و " بل " ؛ للإضراب الانتقالي؛ وهو الانتقال من موضوع إلى موضوع؛ أو الانتقال من عدم الشعور بالبعث إلى العلم به علم يقين؛ و " بل " ؛ الثانية؛ للإضراب الانتقالي؛ وهو الانتقال من العلم المتلاحق الذي سيكون الآن؛ أو من " الآن " ؛ إلا أنهم في حال شك من الإيمان؛ لا اليقين؛ ولذا قال (تعالى): بل هم في شك منها ؛ أي أنه مع هذا العلم المتوافر المثبت لليقين بالبعث كانوا في شك منه؛ وقد أكد - سبحانه - الشك في قوله: بل هم في شك منها ؛ وكان التوكيد بـ " بل " ؛ المفيدة للإضراب؛ وبالضمير؛ وبأن الشك أحاط بهم؛ كما تحيط الدائرة بقطرها؛ فهم سيغرقون فيه؛ لا يخرجون عنه؛ ولا يتركونه إلى يقين أيضا؛ والضمير يعود إلى الآخرة التي يرتابون فيها؛ بل هم منها عمون ؛ جمع " عم " ؛ أي أنهم عمي عن الآخرة؛ أي أنها واقعة لا ريب؛ ولكنهم عمون عن حقائقها؛ وما يكون فيها؛ فالحقائق ثابتة بأدلتها السمعية والنقلية؛ ولكنهم عمون عنها غافلون؛ وليس العيب في حقائق يوم القيامة؛ إنما العيب في عماهم عنها.

                                                          وتقدم الجار والمجرور لمعنى الاختصاص؛ أي أنهم عمون عن الحياة الآخرة؛ وليسوا عمين عن غيرها؛ وهي أعراض الدنيا؛ وما فيها من لهو ولعب؛ وملاذ؛ وشهوات؛ وأكد الحكم بالإضراب؛ وبالضمير؛ وبالجملة الاسمية.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية