الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        1451 1418 - مالك عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار ; أن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ، فأتى رجلان ، كلاهما يدعي ولد امرأة ، فدعا عمر بن الخطاب قائفا ، فنظر إليهما ، فقال القائف : لقد اشتركا فيه ، فضربه عمر بن الخطاب بالدرة ، ثم دعا المرأة فقال : أخبريني خبرك فقالت : كان هذا - لأحد الرجلين - يأتيني ، وهي في إبل لأهلها . فلا يفارقها حتى يظن وتظن أنه قد استمر بها حبل . ثم انصرف عنها ، فأهريقت عليه دماء ، ثم خلف عليها هذا ، تعني الآخر ، فلا أدري من أيهما هو ؟ قال فكبر القائف ، فقال عمر للغلام : وال أيهما شئت .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        32332 - قال أبو عمر : روى هذا الحديث ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يسار بمعنى حديث مالك سواء ، فقال سفيان : جعله عمر بينهما يرثانه ، ويرثهما حين اشتركا فيه ، وقال غيره : هو للذي أتاها أحرى ، قال سفيان : وقوله : وال أيهما شئت أي انتسب إلى أيهما شئت .

                                                                                                                        32333 - قال أبو عمر : أما قوله : إن عمر بن الخطاب كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام ، فقد مضى القول ، أن هذا منه كان خاصا في ولادة [ ص: 182 ] الجاهلية حيث لم يكن فراش .

                                                                                                                        32334 - وأما في ولادة الإسلام ، فلا يجوز عند أحد من العلماء أن يلحق ولد من زنى .

                                                                                                                        32335 - حدثني أحمد بن عبد الله ، قال : حدثني الميمون بن حمزة ، قال : حدثني الطحاوي ، قال : حدثني المزني ، قال : حدثني الشافعي ، قال : أخبرنا سفيان بن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : أرسل عمر بن الخطاب إلى شيخ من بني زهرة - من أهل دارنا فذهبت مع الشيخ إلى عمر ، وهو في الحجر فسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية ؟ قال : وكانت المرأة في الجاهلية إذا طلقها زوجها ، أو مات عنها نكحت بغير عدة ، فقال الرجل : أما النطفة فمن فلان ، وأما الولد ، فهو على فراش فلان ، فقال عمر : صدقت ، ولكن قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالولد للفراش .

                                                                                                                        32336 - حدثني عبد الوارث ، قال : حدثني قاسم ، قال : حدثني الخشني ، قال : حدثني ابن أبي عمر ، قال : حدثني سفيان ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، عن أبيه ، قال : دخل عمر بن الخطاب الحجر ، فأرسل إلى رجل من بني زهرة يسأله عن ولاد من ولاد الجاهلية فخرج إلي ، فذهبت معه ، فأتاه ، وهو في الحجر ، فسأله ، وكان أهل الجاهلية إذا مات الرجل ، أو طلق لم تعتد امرأته ، فقال : أما النطفة فمن فلان ، وأما الفراش فلفلان ، فقال له عمر : صدقت ، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 183 ] قضى أن الولد للفراش .

                                                                                                                        32337 - قال أبو عمر : لم يلتفت عمر إلى قول القائف مع الفراش ، وعلى هذا جماعة الناس .

                                                                                                                        وأما القول بالقافة فأباه الكوفيون ، وأكثر أهل العراق ورووا عن عمر من حديث الشعبي ، وإبراهيم أن عمر قال لرجلين تداعيا ولد امرأة : هو ابنكما ، وهو للباقي منكما .

                                                                                                                        32338 - وذكره عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن علي - رضي الله عنه - أنه أتاه رجلان ، وقعا على امرأة في طهر واحد ، فقال : الولد بينكما ، وهو للباقي منكما .

                                                                                                                        32339 - وعن أبي حنيفة ، عن حماد ، عن إبراهيم ، قال : هو ابنهما يرثانه ، ويرثهما .

                                                                                                                        32340 - وعن سفيان الثوري في رجلين تنازعا ولدا ، يقول كل واحد منهما إنه ولد على فراشه ، إلا أنه في يد أحدهما ، قال : هو للذي هو في يده إذا وضعته في ستة أشهر ، فإن كان دون ستة أشهر ، فهو للأول ، إلا أن يكون دون ستة أشهر بيوم ، [ ص: 184 ] أو يومين ، قال : هذا في الرجل يبيع الجارية من الرجل ، ثم يدعي ولدها ويدعي المشتري .

                                                                                                                        32341 - وقال سفيان الثوري في الولد يدعيه الرجلان أنه يرث كل واحد منهما نصيب ذكر تام ، وهما جميعا يرثانه ، الثلث ، فإذا مات أحدهما فهو للباقي منهما ، ومن نفاه أحدهما لم يضرب الحد حتى ينفيه منهما جميعا فإذا صار للباقي منهما فإنه يرث إخوته من الميت ، ولا يرثونه ; لأنه يحجبهم أبوه الحي ، ويرثهم هو ; لأنه أخوهم ويكون ميراثه للباقي وعقله عليه ، فإذا مات الآخر من الأبوين صار عقله وميراثه للإخوة من الأبوين جميعا .

                                                                                                                        32342 - وقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : لا يقضى بقول القافة في شيء ، لا في نسب ، ولا في غيره .

                                                                                                                        32343 - قالوا : وإن ادعى رجلان مسلمان ولدا جعل بينهما وجعلت الأمة أم ولد لهما .

                                                                                                                        32344 - فإن كانوا ثلاثة ، وادعوا ولدا ، لم يكن بينهم في قول أبي يوسف .

                                                                                                                        32345 - وقال محمد : يكون ابن الثلاثة إذا ادعوه معا ، كما يكون بين الاثنين .

                                                                                                                        32346 - ولو كانت الأمة بين مسلم وذمي ، فجاءت بولد ، فادعياه جميعا ، فإنه يجعل ابن المسلم منهما عندهم ، ويضمن قيمة الأمة لشريكه ، ونصف العقد .

                                                                                                                        32347 - وقال زفر : يكون ابنهما جميعا ، ويكون مسلما ، وقد روي ذلك [ ص: 185 ] عن أبي حنيفة ، واختاره الطحاوي .

                                                                                                                        32348 - وأما قول أهل الحجاز في القضاء بالقافة :

                                                                                                                        32349 - فروي عن عمر ، وابن عباس وأنس بن مالك ، ولا مخالف لهم من الصحابة .

                                                                                                                        32350 - وهو قول عطاء بن أبي رباح .

                                                                                                                        32351 - وبه قال مالك ، وأحمد والليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو ثور .

                                                                                                                        32352 - وهو قول عمر ، وبه قضى في محضر من الصحابة .

                                                                                                                        32353 - وقد زعم بعض من لا يرى القول بالقافة أن عمر إنما ضرب القائف بالدرة ; لأنه لم ير قوله شيئا يعمل به ، وهذا تعسف يشبه التجاهل ; لأن قضاء عمر [ ص: 186 ] بالقافة أشهر وأعرف من أن يحتاج إليه إلى شاهد ، بل إنما ضربه بقوله : اشتركا فيه ، وكان يظن أن ماءين لا يجتمعان في ولد واحد ، استدلالا بقوله تعالى : إنا خلقناكم من ذكر وأنثى [ الحجرات : 13 ] ولم يقل من ذكرين وأنثى .

                                                                                                                        ألا ترى أنه قضى بقول القائف ، وقال : وال أيهما شئت .

                                                                                                                        32354 - قال أحمد : إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر ، أرى القافة ، فبأيهم ألحقوه لحق به .

                                                                                                                        32355 - ولم يختلف قول مالك ، وأصحابه إذا قالت القافة قد اشتركا فيه أن يوقف الصبي حتى يبلغ فيه ، ويقال له : وال أيهما شئت وإنه إن مات قبل البلوغ ، والموالاة كان ميراثه بين الأبوين .

                                                                                                                        32356 - وإن مات أحد الأبوين وقف ميراث الولد منه ، فإن والاه أخذ ميراثه ، وإن والى الحي لم يكن له من ميراث الميت شيء .

                                                                                                                        وإن مات الصبي بعد موت أحدهما قبل البلوغ فهاهنا اختلفوا ، وقد ذكرنا اختلافهم في كتاب اختلاف أقوال مالك ، وأصحابه .

                                                                                                                        32357 - واختلفوا هل يقبل قول القائف الواحد أم لا ؟

                                                                                                                        32358 - فعند مالك فيه روايتان : إحداهما : لا يقبل إلا قائفان .

                                                                                                                        والأخرى : يقبل قول القائف الواحد .

                                                                                                                        32359 - وهو قول الشافعي ; لأنه عنده كالحاكم ، لا كالشهود .

                                                                                                                        [ ص: 187 ] 32360 - وهو الأشهر عن مالك ، وعليه أكثر أصحابه .

                                                                                                                        32361 - وهو المروي عن عمر ، ومن لم يقبل من أصحاب مالك فيه إلا قائفين جعلهما كالشاهدين ، وهو عندي أحوط ، والله أعلم .

                                                                                                                        32362 - وقول الشافعي في أن الولد إذا كان صغيرا انتظر به البلوغ كقول مالك سواء ، فلا يكون ابنا لهما ، ولكن يوالي من شاء منهما على ما روى أهل المدينة عن عمر - رضي الله عنه - .

                                                                                                                        32363 - وفي دعاء عمر له القافة حين ادعاه اثنان - دليل على أنه لا يكون ابنا لاثنين أبدا ، وإنما دعا له القائف ليلحقه بأحدهما ، فلما قال : اشتركا فيه ، قال له : وال أيهما شئت .

                                                                                                                        32364 - وقد روي عن بعض المفسرين أنه قال في قول الله عز وجل ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه [ الأحزاب : 4 ] قال : لم أجد الله تعالى ، ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - نسبا أحدا إلا إلى أب واحد .

                                                                                                                        32365 - وقال أبو ثور : يكون ابنهما إذا قال القائف قد اشترك فيه ، يرثهما ، ويرثانه .

                                                                                                                        32366 - وروي عن عمر أنه جعله ابنهما .

                                                                                                                        32367 - واختلف الشافعي ، ومالك في القضاء بالقافة في أولاد الحرائر .

                                                                                                                        32368 - فقال مالك ، وأكثر أصحابه ليس للقافة في أولاد الحرائر قول ، وإنما يقبل قولهم في الإماء .

                                                                                                                        [ ص: 188 ] 32369 - وقال الشافعي : الحرائر ، والإماء في ذلك سواء إذا أمكنت الدعوى به .

                                                                                                                        32370 - وقال أشهب : ما كانت القافة إلا في الحرائر ، وبه نقول .

                                                                                                                        32371 - وقال الشافعي : إذا ادعى الحر والعبد أو المسلم والذمي مولودا - قد وجد لقيطا ، فلا فرق بين واحد منهم ، كما لا يكون بينهم فرق فيما يملكون - فرآه القافة فإن ألحقوه بواحد منهما ، فهو ابنه أبدا ، وإن ألحقوه بأكثر لم يكن ابن واحد منهم حتى يبلغ ، فينتسب إلى أيهم شاء ، ويكون ابنه ، وتنقطع عنه دعوى الآخر ، وهو حر في كل حالاته ، بأيهم ألحقته القافة ؟ لأن أصل الناس الحرية حتى يعلم العبودية .

                                                                                                                        32372 - ومن الحجة في القضاء بالقافة ومع ما روي في ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - حديث ابن شهاب عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرورا ، تبرق أسارير وجهه ، فقال : ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد ، وأسامة - ورأى أقدامهما فقال - : إن هذه الأقدام بعضها من بعض .

                                                                                                                        32373 - رواه جماعة من ثقات أصحاب ابن شهاب عنه .

                                                                                                                        [ ص: 189 ] 32374 - وروى معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين : أن عمر دعا القافة فرأوا شبه الولد في الرجلين ، ورأى عمر مثل ما رأت القافة قال : قد كنت أعلم أن الكلبة تلقح الأكلب فيكون كل جرو لأبيه ، وما كنت أرى أن ماءين يجتمعان في ولد واحد .

                                                                                                                        32375 - ومعمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة في هذه القصة أن عمر قال في هذا : أمر لا أقضي فيه شيئا ، ثم قال للغلام : اجعل نفسك حيث شئت .

                                                                                                                        32376 - ومعمر ، عن الزهري ، عن عروة بن الزبير : أن رجلين ادعيا ولدا ، فدعا عمر بالقافة ، واقتدى في ذلك بنظر القافة ، وألحقه بأحد الرجلين .

                                                                                                                        32377 - ومعمر ، عن الزهري في رجل وقع على أمة في عدتها من زوجها ، فقال : يدعى لولدها القافة فإن عمر بن الخطاب ، ومن بعده قد أخذوا بنظر القافة في مثل هذا .

                                                                                                                        [ ص: 190 ] 32378 - قال أبو عمر : قد روي في هذا الحديث حديث مسند حسن ، أخذ جماعة من أهل الحديث به ، ومن أهل الظاهر .

                                                                                                                        32379 - ورواه الثوري عن صالح بن يحيى ، عن الشعبي ، عن زيد بن أرقم ، قال : كان علي - رضي الله عنه - باليمن ، فأتي بامرأة وطئها ثلاثة في طهر واحد فسأل كل منهم أن يقر لصاحبه ، فأبى ، فأقرع بينهم ، وقضى بالولد للذي أصابته القرعة ، وجعل عليه ثلثي الدية ، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأعجبه وضحك حتى بدت نواجذه .

                                                                                                                        32380 - ورواه ابن عيينة ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن الخليل ، عن زيد بن أرقم ، قال : أتي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - باليمن في ثلاثة نفر ، وقعوا على جارية في طهر واحد ، فجاءت بولد ، فجاءوا يختصمون في ولدها فقال علي لأحدهم : تطيب نفسا ، وتدعه لهذين ؟ فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، وقال للآخر مثل ذلك ، فقال : لا ، فقال : أنتم شركاء متشاكسون ، وإني أقرع بينكم ، فأيكم أصابته القرعة ألزمته الولد ، وغرمته ثلثي القيمة ، أو قال ثلثي قيمة الجارية ، فلما قدموا على رسول [ ص: 191 ] الله - صلى الله عليه وسلم - ضحك حتى بدت نواجذه ، وقال : ما أعلم فيها غير ما قال علي .




                                                                                                                        الخدمات العلمية