الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
اختيار هذا الخط
الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.
أما بعد ، فإن nindex.php?page=treesubj&link=2333الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=678248الصوم نصف الصبر وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=856638الصبر نصف الإيمان ثم هو متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : nindex.php?page=hadith&LINKID=886883كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به
قال المصنف رحمه الله: (أما بعد، فإن الصوم) ثالث أركان الإسلام بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، nindex.php?page=treesubj&link=2333شرعه سبحانه لفوائد أعظمها كونه موجبا سكون النفس الأمارة، وكسر سورتها في الفضول المتعلقة بجميع الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج، فإن به تضعف حركتها في محسوساته؛ ولذا قيل: إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء، فإذا شبعت جاعت كلها. وعن هذا صفاء القلب من الكدر، فإن الموجب لكدراته فضول اللسان والعين وباقيها، وبصفائه تناط المصالح والدرجات، ومنها كونه موجبا للرحمة والعطف على المساكين، فإنه لما ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات ذكر من هذا حاله في جميع الأوقات، فتسارع إليه الرقة عليه، والرحمة حقيقتها في حق الإنسان نوع ألم باطن، فيسارع لدفعه عنه بالإحسان إليه، فينال بذلك ما عند الله تعالى من حسن الجزاء، ومنها موافقة الفقراء بتحمل ما يتحملون، وفي ذلك رفع حال عند الله تعالى، كما حكي عن بشر الحافي أنه دخل عليه رجل في الشتاء فوجده جالسا يرعد وثوبه معلق على المشجب، فقال له: في مثل هذا الوقت ينزع الثوب؟ أو معناه، فقال: يا أخي، الفقراء كثير وليس لي طاقة مواساتهم بالثياب فأواسيهم بتحمل البرد كما يتحملون. وبالنظر إلى ما ذكرناه، قيل: nindex.php?page=treesubj&link=2333الصوم (ربع الإيمان) وذلك (بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=678248الصوم نصف الصبر) .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي وحسنه من حديث رجل من بني سليم، nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة اهـ .
قلت: ولفظ nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه: nindex.php?page=hadith&LINKID=678248الصيام نصف الصبر، وعند nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة هكذا، لكن بزيادة: nindex.php?page=hadith&LINKID=678248وعلى كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام. (وبمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=856638الصبر نصف الإيمان) .
قال العراقي: رواه nindex.php?page=showalam&ids=12181أبو نعيم في الحلية، nindex.php?page=showalam&ids=14231والخطيب في التاريخ من حديث nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود بسند حسن. اهـ .
قلت: وأخرجه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي من هذا الوجه بزيادة: واليقين الإيمان كله، وقال: تفرد به يعقوب بن حميد عن محمد بن خالد المخزومي، والمحفوظ عن nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود من قوله غير مرفوع. اهـ .
ويعقوب، قال الذهبي: ضعفه أبو حاتم وغير واحد، وقد ذكر المصنف فيما بعد في المنجيات تحقيق معنى هذا الحديث؛ حيث قال: والمراد بالصبر العمل بمقتضى اليقين؛ إذ اليقين معرفة أن المعصية ضارة والطاعة نافعة، ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر، وهو استعمال باعث الدين في قهر باعث الهوى والكسل، فكان الصبر نصف الإيمان بهذا الاعتبار. اهـ .
ثم وجهوا في كون nindex.php?page=treesubj&link=2333الصيام نصف الصبر، بأن الصبر حبس النفس عن إجابة داعي الشهوة والغضب، فالنفس تشتهي الشيء بحصول [ ص: 188 ] اللذة بإدراكه وتغضب لقوته وتنفر لنفرتها عن المؤلم، والصوم صبر عن مقتضى الشهوة فقط، وهي شهوة البطن والفرج دون مقتضى الغضب، لكن من كمال الصوم حبس النفس عنهما، وقال الحليمي: إنما كان الصيام نصف الصبر؛ لأن جميع العبادات فعل وكف، والصوم يقمع الشهوة فيسهل الكف، وهو شرط الصبر، فهما صبران: صبر عن أشياء، وصبر على أشياء. والصوم معين على أحدهما؛ فهو نصف الصبر. اهـ .
ثم ما ذكر المصنف هنا من أنه نصف الصبر يعارضه ما صار إليه بعض المفسرين من أن المراد بالصبر في قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=45واستعينوا بالصبر والصلاة أنه الصوم بدليل مقابلته بالصلاة، وأما ما ذهب إليه الأكثر منهم في تفسيره بالعبادة كلها فلا يعارضه، (ثم هو) أي: الصوم (متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان) الخمسة؛ (إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: nindex.php?page=hadith&LINKID=886883كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) .
قال العراقي: أخرجاه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة ا ه .
قلت: لفظ nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم nindex.php?page=hadith&LINKID=651771عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فهو لي وأنا أجزي به. وفي رواية أخرى له عنه، nindex.php?page=hadith&LINKID=651771قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة. وفي رواية أخرى له عنه: nindex.php?page=hadith&LINKID=668446كل عمل ابن آدم تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف .
قال الله عز وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. وهكذا هو عند nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه من رواية nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش عن أبي صالح عنه، زاد nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه بعد قوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=886883إلى سبعمائة ضعف، إلى ما يشاء الله.
وأخرج nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وأبي سعيد قالا: nindex.php?page=hadith&LINKID=656938قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته. وعند nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من طريق nindex.php?page=showalam&ids=13723الأعرج عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة في أثناء حديث: nindex.php?page=hadith&LINKID=886883كل حسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به. وفي بعض طرقه: nindex.php?page=hadith&LINKID=886879لكل عمل كفارة والصوم لي. وفي الحديث فوائد:
الأولى: ظاهره يقتضي أن أقل التضعيف عشرة أمثال وغايته سبعمائة ضعف، وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=261والله يضاعف لمن يشاء ، فقيل: المراد يضاعف هذا التضعيف، وهو السبعمائة، وقيل: المراد يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، وقد ورد التضعيف بأكثر من السبعمائة في أعمال كثيرة في أخبار صحيحة، أكثر ما جاء فيه ما رواه nindex.php?page=showalam&ids=14070الحاكم في صحيحه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس مرفوعا: nindex.php?page=hadith&LINKID=909284من حج من مكة ماشيا حتى يرجع إلى مكة، كتب الله له بكل خطوة سبعمائة حسنة، كل حسنة مثل حسنات الحرم، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: بكل حسنة مائة ألف حسنة.
وقد أخرجه أيضا nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني في الإفراد، nindex.php?page=showalam&ids=14687والطبراني في الكبير، nindex.php?page=showalam&ids=13933والبيهقي، والجمع بينه وبين حديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة هذا: أنه لم يرد بحديث nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة انتهاء التضعيف بدليل أن في بعض طرقه بعد قوله: إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، وفي أخرى: إلى ما يشاء الله، فهذه الزيادة تبين أن هذا التضعيف يزاد على السبعمائة، والزيادة من الثقة مقبولة على الصحيح .
الثانية: قال nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي في قوله: إلى سبعمائة ضعف، يعني بظاهره الجهاد في سبيل الله، ففيه ينتهي التضعيف إلى سبعمائة من العدد بنص القرآن، وقد جاء في الحديث الصحيح: nindex.php?page=hadith&LINKID=674005إن العمل الصالح في أيام العشر أحب إلى الله من الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع. قال: فهذان عملان .
قال العراقي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي: وعمل ثالث، روى nindex.php?page=showalam&ids=12251أحمد في مسنده: nindex.php?page=hadith&LINKID=702767النفقة في الحج تضاعف كالنفقة في سبيل الله، الدرهم بسبعمائة ضعف. قال: وعمل رابع، وهو nindex.php?page=hadith&LINKID=848092كلمة حق عند سلطان جائر، ففي الحديث: أنه nindex.php?page=hadith&LINKID=670399أفضل الجهاد. رواه nindex.php?page=showalam&ids=11998أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من حديث nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد، قال: وعمل خالص، وهو nindex.php?page=treesubj&link=24582ذكر الله؛ فإنه قد ورد أنه أفضل الجهاد، من حديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء وأبي سعيد nindex.php?page=showalam&ids=13وعبد الله بن عمرو nindex.php?page=showalam&ids=32ومعاذ، فحديث nindex.php?page=showalam&ids=4أبي الدرداء رواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه nindex.php?page=showalam&ids=14070والحاكم، وصححه بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=701910ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال: ذكر الله، وحديث أبي [ ص: 189 ] سعيد رواه nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=665668سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا، قلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما، لكان الذاكرون الله عز وجل أفضل منه درجة. وحديث nindex.php?page=showalam&ids=13عبد الله بن عمرو رواه nindex.php?page=showalam&ids=13933البيهقي في الدعوات nindex.php?page=showalam&ids=13332وابن عبد البر في التمهيد، وفيه: nindex.php?page=hadith&LINKID=956734وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكركم الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع. وحديث nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ رواه nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني الكبير، بلفظ: nindex.php?page=hadith&LINKID=956738ما من عمل آدمي أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل؟ قال: لا، إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ثلاث مرار.
الثالثة: اختلف في هذا الاستثناء، فقيل: من التضعيف كما يومئ إليه سياق المصنف الآتي بعد هذا، وقيل: من العمل، ويؤيده رواية أبي صالح عن nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، وبه يظهر معنى قوله: لي، أي: ليس للصائم فيه حظ، وهو أحد الوجوه في تفسيره، نقله القاضي عن nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي.
الرابعة: اختلفوا في قوله: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771لي وأنا أجزي به، مع كون العبادات كلها له تعالى على أقوال منها ما أشار إليه المصنف في تضاعيف كلامه تلويحا وتصريحا كما ستأتي الإشارة إليه، ومنها ما تقدم عن nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي قريبا، ومنها أن الاستغناء عن الطعام والشراب من صفات الله تعالى، فكأنه يتقرب إلى الله بشبه صفة من صفاته، وإن كان تعالى لا شبه له في صفاته. نقله القاضي، وأشار إليه الشيخ الأكبر - قدس سره- بقوله: ولما كان العبد موصوفا بأنه ذو صوم وأنه الصائم، ثم بعد إثبات الصوم له سلبه الحق عنه وأضافه إلى نفسه، فقال: nindex.php?page=hadith&LINKID=651771إلا الصيام فإنه لي، أي: صفة الصمدانية، وهي التنزيه عن الغذاء ليس إلا لي، وإن وصفتك به فإنما وصفتك باعتبار تقييد ما من تقييدات التنزيه لا بإطلاق التنزيه الذي ينبغي لجلالي، فقلت: وأنا أجزي به، فكان الحق جزاء الصوم للصائم، ومنها قيل: سبب إضافته إليه تعالى أنه لم يعبد به أحد سواه، فلم تعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود والصدقة والذكر وغير ذلك. حكاه النووي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=17080مسلم، قال العراقي في شرح nindex.php?page=showalam&ids=13948الترمذي: ونقضه بعضهم بأرباب الاستخدامات فإنهم يصومون للكواكب، قالوا: ليس هذا بنقض صحيح؛ لأن أرباب الاستخدامات لا يعتقدون أن الكواكب آلهة، وإنما يقولون: إنها فعالة بنفسها وإن كانت عندهم مخلوقة، ومنها أن معنى هذه الإضافة أن سائر العبادات يوفى منها ما على العبد من الحقوق إلا الصيام فإنه يبقى موفرا لصاحبه لا يوفى منه حق، وقد ورد ذلك في حديث، قال أبو العباس القرطبي: وقد كنت استحسنته إلى أن وجدت حديثا فيه ذكر الصوم في جملة الأعمال المذكورة للأخذ منها، فإنه قال فيه: nindex.php?page=hadith&LINKID=688531المفلس الذي يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا.. الحديث. قال: وهذا يدل على أن الصيام يؤخذ كسائر الأعمال. اهـ .
قال العراقي: قلت: إذا صحح ذلك الاستثناء فهو مقدم على هذا العموم، فيجب الأخذ به، والله أعلم .
فهذا أربعة أقوال مع قول nindex.php?page=showalam&ids=14228الخطابي.