الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 127 ] اعلم أنه تعالى لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده ، ذكر أيضا في هذه الآية ما وقع عليه الختم في أمر بني إسرائيل ، وههنا بحثان :

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الأول : أن قوله : ( بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) أي أسكناهم مكان صدق أي مكانا محمودا ، وقوله : ( مبوأ صدق ) فيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : يجوز أن يكون مبوأ صدق مصدرا ، أي بوأناهم تبوأ صدق .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يكون المعنى منزلا صالحا مرضيا ، وإنما وصف المبوأ بكونه صدقا ؛ لأن عادة العرب أنها إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ، تقول : رجل صدق ، وقدم صدق ، قال تعالى : ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق ) [ الإسراء : 80 ] والسبب فيه أن ذلك الشيء إذا كان كاملا في وقته صالحا للغرض المطلوب منه ، فكل ما يظن فيه من الخير ، فإنه لا بد وأن يصدق ذلك الظن .

                                                                                                                                                                                                                                            البحث الثاني : اختلفوا في أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية أهم اليهود الذين كانوا في زمن موسى - عليه السلام - أم الذين كانوا في زمن محمد عليه السلام ؟

                                                                                                                                                                                                                                            أما القول الأول : فقد قال به قوم ودليلهم أنه تعالى لما ذكر هذه الآية عقيب قصة موسى - عليه السلام - كان حمل هذه الآية على أحوالهم أولى ، وعلى هذا التقدير : كان المراد بقوله : ( ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ) الشام ومصر ، وتلك البلاد فإنها بلاد كثيرة الخصب ، قال تعالى : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله ) [ الإسراء : 1 ] والمراد من قوله : ( ورزقناهم من الطيبات ) تلك المنافع ، وأيضا المراد منها أنه تعالى أورث بني إسرائيل جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق والصامت والحرث والنسل ، كما قال : ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها ) . [ الأعراف : 137 ]

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( فما اختلفوا حتى جاءهم العلم ) والمراد أن قوم موسى - عليه السلام - بقوا على ملة واحدة ومقالة واحدة من غير اختلاف حتى قرءوا التوراة ، فحينئذ تنبهوا للمسائل والمطالب ووقع الاختلاف بينهم . ثم بين تعالى أن هذا النوع من الاختلاف لا بد وأن يبقى في دار الدنيا ، وأنه تعالى يقضي بينهم يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القول الثاني : وهو أن المراد ببني إسرائيل في هذه الآية اليهود الذين كانوا في زمان محمد - عليه الصلاة والسلام - فهذا قال به قوم عظيم من المفسرين . قال ابن عباس : وهم قريظة والنضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من الطيبات ، والمراد ما في تلك البلاد من الرطب والتمر التي ليس مثلها طيبا في البلاد ، ثم إنهم بقوا على دينهم ، ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم العلم ، والمراد من العلم القرآن النازل على محمد - عليه الصلاة والسلام - وإنما سماه علما ; لأنه سبب العلم ، وتسمية السبب باسم المسبب مجاز مشهور .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي كون القرآن سببا لحدوث الاختلاف وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام ويفتخرون به على سائر الناس ، فلما بعثه الله تعالى كذبوه حسدا وبغيا وإيثارا لبقاء الرياسة وآمن به طائفة منهم ، فبهذا الطريق صار نزول القرآن سببا لحدوث الاختلاف فيهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن يقال : إن هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفارا محضا [ ص: 128 ] بالكلية وبقوا على هذه الحالة حتى جاءهم العلم ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قوم وبقي أقوام آخرون على كفرهم .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما قوله تعالى : ( إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ) فالمراد منه أن هذا النوع من الاختلاف لا حيلة في إزالته في دار الدنيا ، وأنه تعالى في الآخرة يقضي بينهم ، فيتميز المحق من المبطل ، والصديق من الزنديق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية