الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ( 4 ) فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ( 5 ) )

وقد بينا فيما مضى قبل أن معنى القضاء : الفراغ من الشيء ، ثم يستعمل في كل مفروغ منه ، فتأويل الكلام في هذا الموضع : وفرغ ربك إلى بني إسرائيل فيما أنزل من كتابه على موسى صلوات الله وسلامه عليه بإعلامه إياهم ، وإخباره [ ص: 356 ] لهم ( لتفسدن في الأرض مرتين ) يقول : لتعصن الله يا معشر بني إسرائيل ولتخالفن أمره في بلاده مرتين ( ولتعلن علوا كبيرا ) يقول : ولتستكبرن على الله باجترائكم عليه استكبارا شديدا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قال : أعلمناهم .

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) يقول : أعلمناهم .

وقال آخرون : معنى ذلك : وقضينا على بني إسرائيل في أم الكتاب ، وسابق علمه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قال : هو قضاء مضى عليهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل ) قضاء قضاه على القوم كما تسمعون .

وقال آخرون : معنى ذلك : أخبرنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحرث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ) قال : أخبرنا بني إسرائيل .

وكل هذه الأقوال تعود معانيها إلى ما قلت في معنى قوله ( وقضينا ) وإن كان الذي اخترنا من التأويل فيه أشبه بالصواب لإجماع القراء على قراءة قوله ( لتفسدن ) بالتاء دون الياء ، ولو كان معنى الكلام : وقضينا عليهم في الكتاب ، لكانت القراءة بالياء أولى منها بالتاء ، ولكن معناه لما كان أعلمناهم وأخبرناهم ، وقلنا لهم : كانت التاء أشبه وأولى للمخاطبة .

وكان فساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى ما حدثني به هارون ، قال : ثنا عمرو بن حماد ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن [ ص: 357 ] أبي صالح ، وعن أبي مالك ، عن ابن عباس ، وعن مرة ، عن عبد الله أن الله عهد إلى بني إسرائيل في التوراة ( لتفسدن في الأرض مرتين ) فكان أول الفسادين : قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، وكان يدعى صحابين فبعث الجنود ، وكان أساورته من أهل فارس ، فهم أولو بأس شديد ، فتحصنت بنو إسرائيل ، وخرج فيهم بختنصر يتيما مسكينا ، إنما خرج يستطعم ، وتلطف حتى دخل المدينة فأتى مجالسهم ، فسمعهم يقولون : لو يعلم عدونا ما قذف في قلوبنا من الرعب بذنوبنا ما أرادوا قتالنا ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، واشتد القيام على الجيش ، فرجعوا ، وذلك قول الله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) ثم إن بني إسرائيل تجهزوا ، فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، فذلك قول الله ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ) يقول : عددا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين : قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ملكا من ملوك فارس ، من قتل زكريا ، وسلط عليهم بختنصر من قتل يحيى .

حدثنا عصام بن رواد بن الجراح ، قال : ثنا أبي ، قال : ثنا سفيان بن سعيد الثوري ، قال : ثنا منصور بن المعتمر ، عن ربعي بن حراش ، قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا ، وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله ملكه سبع مائة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس فحاصرها وفتحها ، وقتل على دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء ، وسلب حلي بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومائة ألف عجلة من حلي حتى أورده بابل ، قال حذيفة : فقلت : يا رسول الله لقد كان بيت المقدس [ ص: 358 ] عظيما عند الله؟ قال : أجل بناه سليمان بن داود من ذهب ودر وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه ، بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة ، وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء حتى نزل بها بابل ، فأقام بنوا إسرائيل في يديه مائة سنة تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس ، وكان مؤمنا ، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار كورس ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتى رده إليه ، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم إبطيا نحوس فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها ، وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم : يا بني إسرائيل إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسير الله عليهم السباء الثالث ملك رومية ، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر ، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مائة سفينة ، يرسى بها على يافا حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : كان مما أنزل الله على موسى في خبره عن بني إسرائيل ، وفي أحداثهم ما هم فاعلون بعده ، فقال ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) . . . . إلى قوله ( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) فكانت بنو إسرائيل ، وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ، متعطفا عليهم محسنا إليهم ، فكان مما أنزل بهم في ذنوبهم ما كان قدم إليهم في الخبر على لسان موسى مما أنزل بهم في ذنوبهم ، فكان أول ما أنزل بهم من تلك الوقائع ، أن ملكا منهم كان يدعى صديقة ، وكان الله إذا ملك الملك عليهم ، بعث نبيا [ ص: 359 ] يسدده ويرشده ، ويكون فيما بينه وبين الله ، ويحدث إليه في أمرهم ، لا ينزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها ، وينهونهم عن المعصية ، ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة; فلما ملك ذلك الملك ، بعث الله معه شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى . وشعياء الذي بشر بعيسى ومحمد ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا; فلما انقضى ملكه عظمت فيهم الأحداث ، وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل ، ومعه ست مائة ألف راية ، فأقبل سائرا حتى نزل نحو بيت المقدس ، والملك مريض ، في ساقه قرحة ، فجاء النبي شعياء ، فقال له : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل ، قد نزل بك هو وجنوده ستمائة ألف راية ، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك ، فقال : يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث ، فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده ، فقال له النبي عليه السلام : لم يأتني وحي أحدث إلي في شأنك ، فبينا هم على ذلك ، أوحى الله إلى شعياء النبي : أن ائت ملك بني إسرائيل ، فمره أن يوصي وصيته ، ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته . فأتى النبي شعياء ملك بني إسرائيل صديقة ، فقال له : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك ، وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك ، فإنك ميت; فلما قال ذلك شعياء لصديقة ، أقبل على القبلة ، فصلى وسبح ودعا وبكى ، فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله بقلب مخلص وتوكل وصبر وصدق وظن صادق ، اللهم رب الأرباب ، وإله الآلهة ، قدوس المتقدسين ، يا رحمن يا رحيم ، المترحم الرءوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك ، فأنت أعلم به من نفسي; سري وعلانيتي لك . وإن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا ، فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه ، وقد رأى بكاءه ، وقد أخر أجله خمس عشرة سنة ، وأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده ، فأتى شعياء النبي إلى ذلك الملك فأخبره بذلك ، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع ، [ ص: 360 ] وانقطع عنه الشر والحزن وخر ساجدا وقال : يا إلهي وإله آبائي ، لك سجدت وسبحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي الملك من تشاء ، وتنزعه ممن تشاء ، وتعز من تشاء ، وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة ، أنت الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين ، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي; فلما رفع رأسه ، أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده بالتينة ، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى ، ويصبح وقد برئ ، ففعل ذلك فشفي ، وقال الملك لشعياء النبي : سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا ، قال : فقال الله لشعياء النبي : قل له : إني قد كفيتك عدوك ، وأنجيتك منه ، وإنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وخمسة من كتابه; فلما أصبحوا جاءهم صارخ ينبئهم ، فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل ، إن الله قد كفاك عدوك فاخرج ، فإن سنحاريب ومن معه قد هلكوا; فلما خرج الملك التمس سنحاريب ، فلم يوجد في الموتى ، فبعث الملك في طلبه ، فأدركه الطلب في مغارة وخمسة من كتابه ، أحدهم بختنصر ، فجعلوهم في الجوامع ، ثم أتوا بهم ملك بني إسرائيل; فلما رآهم خر ساجدا من حين طلعت الشمس حتى كانت العصر ، ثم قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم يقتلكم بحوله وقوته ، ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنحاريب له : قد أتاني خبر ربكم ، ونصره إياكم ، ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي ، فلم أطع مرشدا ، ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ، ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم ، ولكن الشقوة غلبت علي وعلى من معي ، فقال ملك بني إسرائيل : الحمد لله رب العزة الذي كفاناكم بما شاء ، إن ربنا لم يبقك ومن معك لكرامة بك عليه ، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لما هو شر لك ، لتزدادوا شقوة في الدنيا ، وعذابا في الآخرة ، ولتخبروا من وراءكم بما لقيتم من فعل ربنا ، ولتنذروا من بعدكم ، ولولا ذلك ما أبقاكم ، فلدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلته ، ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه ، فقذف في رقابهم الجوامع ، وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس إيليا ، وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من شعير لكل رجل منهم ، فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا ، فافعل ما أمرت ، فنقل [ ص: 361 ] بهم الملك إلى سجن القتل ، فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم ، وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم; فبلغ النبي شعياء الملك ذلك ، ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتى قدموا بابل; فلما قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ، ووحي الله إلى نبيهم ، فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، فكان أمر سنحاريب مما خوفوا ، ثم كفاهم الله تذكرة وعبرة ، ثم لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ، ثم مات .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما مات سنحاريب استخلف بختنصر ابن ابنه على ما كان عليه جده يعمل بعمله ، ويقضي بقضائه ، فلبث سبع عشرة سنة . ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة; فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك ، حتى قتل بعضهم بعضا عليه ، ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ، ولا يقبلون منه; فلما فعلوا ذلك ، قال الله فيما بلغنا لشعياء : قم في قومك أوح على لسانك; فلما قام النبي أطلق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ، ويا أرض أنصتي ، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته ، واصطفاهم لنفسه ، وخصهم بكرامته ، وفضلهم على عباده ، وفضلهم بالكرامة ، وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها ، وجمع ضالتها ، وجبر كسيرها ، وداوى مريضها ، وأسمن مهزولها ، وحفظ سمينها; فلما فعل ذلك بطرت ، فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا ، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأمة الخاطئة ، وويل لهؤلاء القوم الخاطئين الذين لا يدرون أين جاءهم الحين . إن البعير ربما يذكر وطنه فينتابه ، وإن الحمار ربما يذكر الآري الذي شبع عليه فيراجعه ، وإن الثور ربما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه ، وإن هؤلاء القوم لا يدرون من حيث جاءهم الحين ، وهم أولو الألباب والعقول ، ليسوا ببقر ولا حمير ، وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه : قل لهم : كيف ترون في أرض كانت خواء زمانا ، خربة مواتا لا عمران فيها ، وكان لها رب حكيم قوي ، فأقبل عليها بالعمارة ، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي ، أو يقال ضيع وهو حكيم ، فأحاط عليها جدارا ، [ ص: 362 ] وشيد فيها قصرا ، وأنبط فيها نهرا ، وصف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب ، وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه فيما ذا رأي وهمة ، حفيظا قويا أمينا ، وتأنى طلعها وانتظرها; فلما أطلعت جاء طلعها خروبا ، قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدرانها وقصرها ، ويدفن نهرها ، ويقبض قيمها ، ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة ، خربة مواتا لا عمران فيها ، قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي ، وإن القصر شريعتي ، وإن النهر كتابي ، وإن القيم نبيي ، وإن الغراس هم ، وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة ، وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنه مثل ضربه الله لهم يتقربون إلي بذبح البقر والغنم ، وليس ينالني اللحم ولا آكله ، ويدعون أن يتقربوا بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها ، فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجد ، ويطهرون أجوافها ، وينجسون قلوبهم وأجسامهم ويدنسونها ، ويزوقون لي البيوت والمساجد ويزينونها ، ويخربون عقولهم وأحلامهم ويفسدونها ، فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها ، إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبح فيها ، ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على أن يفقه قلوبنا لأفقهها ، فاعمد إلى عودين يابسين ، ثم ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون ، فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ، فلما قال لهما ذلك ، اختلطا فصارا واحدا ، فقال الله : قل لهم : إني قدرت على ألفة العيدان اليابسة وعلى أن أولف بينها ، فكيف لا أقدر على أن أجمع ألفتهم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقه قلوبهم ، وأنا الذي صورتها; يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا ، وصلينا فلم تنور صلاتنا ، وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ، ودعونا بمثل حنين الحمام ، وبكينا بمثل عواء الذئب ، في كل ذلك لا نسمع ، ولا يستجاب لنا; قال الله : فسلهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين ، وأبصر الناظرين ، وأقرب المجيبين ، وأرحم الراحمين؟ آلآن ذات يدي قلت ؟ كيف ويداي مبسوطتان بالخير ، أنفق كيف أشاء ، ومفاتيح الخزائن عندي لا يفتحها ولا يغلقها غيري ، ألا وإن رحمتي وسعت كل شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها [ ص: 363 ] ; أو لأن البخل يعتريني ، أولست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ، أجود من أعطى ، وأكرم من سئل; لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها ، واشتروا بها الدنيا ، إذن لأبصروا من حيث أتوا ، وإذن لأيقنوا أن أنفسهم هي أعدى العداة لهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ، ويتقوون عليه بطعمة الحرام ، وكيف أنور صلاتهم ، وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني ، وينتهك محارمي ، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم ، أوجر عليها أهلها المغصوبين ، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قول بألسنتهم والفعل من ذلك بعيد ، وإنما أستجيب للداعي اللين ، وإنما أسمع من قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين ، فلو رحموا المساكين ، وقربوا الضعفاء ، وأنصفوا المظلوم ، ونصروا المغصوب ، وعدلوا للغائب ، وأدوا إلى الأرملة واليتيم والمسكين ، وكل ذي حق حقه ، ثم لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذن لكلمتهم ، وإذن لكنت نور أبصارهم ، وسمع آذانهم ، ومعقول قلوبهم ، وإذن لدعمت أركانهم ، فكنت قوة أيديهم وأرجلهم ، وإذن لثبت ألسنتهم وعقولهم ، يقولون لما سمعوا كلامي ، وبلغتهم رسالاتي بأنها أقاويل منقولة ، وأحاديث متوارثة ، وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا ، وأن يطلعوا على الغيب بما توحي إليهم الشياطين طلعوا ، وكلهم يستخفي بالذي يقول ويسر ، وهم يعلمون أني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما يبدون وما يكتمون ، وإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض قضاء أثبته على نفسي ، وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع ، فإن صدقوا بما ينتحلون من علم الغيب ، فليخبروك متى أنفذه ، أو في أي زمان يكون ، وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون ، فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت ، فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون ، وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليؤلفوا مثل الحكمة التي أدبر بها أمر ذلك القضاء إن كانوا صادقين ، فإني قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الأجراء ، وأن أحول الملك في الرعاء ، والعز في الأذلاء ، والقوة في الضعفاء ، والغنى في الفقراء ، والثروة في الأقلاء ، والمدائن في الفلوات ، والآجام في المفاوز ، والبردى في الغيطان ، والعلم [ ص: 364 ] في الجهلة ، والحكم في الأميين ، فسلهم متى هذا ، ومن القائم بهذا ، وعلى يد من أسنه ، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون ، فإني باعث لذلك نبيا أميا ، ليس أعمى من عميان ، ولا ضالا من ضالين ، وليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق ، ولا متزين بالفحش ، ولا قوال للخنا ، أسدده لكل جميل ، أهب له كل خلق كريم ، أجعل السكينة لباسه ، والبر شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة معقوله ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والعرف خلقه; والعدل والمعروف سيرته ، والحق شريعته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلالة ، وأعلم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأشهر به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به قلوبا مختلفة ، وأهواء مشتتة ، وأمما متفرقة ، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر ، توحيدا لي ، وإيمانا وإخلاصا بي ، يصلون لي قياما وقعودا ، وركوعا وسجودا ، يقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا ، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني ، ألهمهم التكبير والتوحيد ، والتسبيح والحمد والمدحة ، والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهللون ، ويقدسون على رءوس الأسواق ، ويطهرون لي الوجوه والأطراف ، ويعقدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم . فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته ، عدوا عليه فيما بلغني ليقتلوه ، فهرب منهم ، فلقيته شجرة ، فانفلقت فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها ، فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها ، وقطعوه في وسطها .

قال أبو جعفر : فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس من رواية السدي ، وقول ابن زيد ، كان إفساد بني إسرائيل في الأرض المرة الأولى قتلهم زكريا نبي الله صلى الله عليه وسلم ، مع ما كان سلف منهم قبل ذلك وبعده ، إلى أن بعث الله عليهم من أحل على يده بهم نقمته من معاصي الله ، وعتوهم على ربهم ، وأما على قول ابن إسحاق الذي روينا عنه ، فكان إفسادهم المرة الأولى ما وصف من قتلهم [ ص: 365 ] شعياء بن أمصيا نبي الله . وذكر ابن إسحاق أن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل ، وأن المقتول إنما هو شعياء ، وأن بختنصر هو الذي سلط على بني إسرائيل في المرة الأولى بعد قتلهم شعياء . حدثنا بذلك ابن حميد ، عن سلمة عنه .

وأما إفسادهم في الأرض المرة الآخرة ، فلا اختلاف بين أهل العلم أنه كان قتلهم يحيى بن زكريا . وقد اختلفوا في الذي سلطه الله عليهم منتقما به منهم عند ذلك ، وأنا ذاكر اختلافهم في ذلك إن شاء الله .

وأما قوله ( ولتعلن علوا كبيرا ) فقد ذكرنا قول من قال : يعني به استكبارهم على الله بالجراءة عليه ، وخلافهم أمره .

وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولتعلن علوا كبيرا ) قال : ولتعلن الناس علوا كبيرا .

حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

وأما قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما ) يعني : فإذا جاء وعد أولى المرتين اللتين يفسدون بهما في الأرض . كما حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما ) قال : إذا جاء وعد أولى تينك المرتين اللتين قضينا إلى بني إسرائيل ( لتفسدن في الأرض مرتين ) .

وقوله ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) يعني تعالى ذكره بقوله ( بعثنا عليكم ) وجهنا إليكم ، وأرسلنا عليكم ( عبادا لنا أولي بأس شديد ) يقول : ذوي بطش في الحروب شديد . وقوله ( فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا )

يقول : فترددوا بين الدور والمساكن ، وذهبوا وجاءوا ، يقال فيه : جاس القوم بين الديار وحاسوا بمعنى واحد ، وجست أنا أجوس جوسا وجوسانا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، روي الخبر عن ابن عباس .

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، [ ص: 366 ] عن ابن عباس ( فجاسوا خلال الديار ) قال : مشوا . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : معنى جاسوا : قتلوا ، ويستشهد لقوله ذلك ببيت حسان :


ومنا الذي لاقى بسيف محمد فجاس به الأعداء عرض العساكر



وجائز أن يكون معناه : فجاسوا خلال الديار ، فقتلوهم ذاهبين وجائين ، فيصح التأويلان جميعا ، ويعني بقوله ( وكان وعدا مفعولا ) وكان جوس القوم الذين نبعث عليهم خلال ديارهم وعدا من الله لهم مفعولا ذلك ، لا محالة ، لأنه لا يخلف الميعاد .

ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله ( أولي بأس شديد ) فيما كان من فعلهم في المرة الأولى في بني إسرائيل حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثنا أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) قال : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذل ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) [ ص: 367 ] قضاء قضى الله على القوم كما تسمعون ، فبعث عليهم في الأولى جالوت الجزري ، فسبى وقتل ، وجاسوا خلال الديار كما قال الله ، ثم رجع القوم على دخن فيهم .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : أما المرة الأولى فسلط الله عليهم جالوت ، حتى بعث طالوت ومعه داود ، فقتله داود .

وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وقد ذكرنا بعض قائلي ذلك فيما مضى ونذكر ما حضرنا ذكره ممن لم نذكره قبل .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن أبي المعلى ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، يقول في قوله ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) قال : بعث الله تبارك وتعالى عليهم في المرة الأولى سنحاريب من أهل أثور ونينوى ، فسألت سعيدا عنها ، فزعم أنها الموصل .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج عن ابن جريج ، قال : ثنى يعلى بن مسلم بن سعيد بن جبير ، أنه سمعه يقول : كان رجل من بني إسرائيل يقرأ حتى إذا بلغ ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) بكى وفاضت عيناه ، وطبق المصحف ، فقال ذلك ما شاء الله من الزمان ، ثم قال : أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه ، فأري في المنام مسكينا ببابل ، يقال له بختنصر ، فانطلق بمال وأعبد له ، وكان رجلا موسرا ، فقيل له أين تريد؟ قال : أريد التجارة حتى نزل دارا ببابل ، فاستكراها ليس فيها أحد غيره ، فحمل يدعو المساكين ويلطف بهم حتى لم يبق أحد ، فقال : هل بقي مسكين غيركم؟ قالوا : نعم ، مسكين بفج آل فلان مريض يقال له بختنصر ، فقال لغلمته : انطلقوا ، حتى أتاه ، فقال : ما اسمك؟ قال : بختنصر ، فقال لغلمته : احتملوه ، فنقله إليه ومرضه حتى برئ ، فكساه وأعطاه نفقة ، ثم آذن الإسرائيلي بالرحيل ، فبكى بختنصر ، فقال الإسرائيلي : ما يبكيك؟ قال : أبكي أنك فعلت بي ما فعلت ، ولا أجد شيئا أجزيك ، قال : بلى شيئا يسيرا ، [ ص: 368 ] إن ملكت أطعتني ، فجعل الآخر يتبعه ويقول : تستهزئ بي ، ولا يمنعه أن يعطيه ما سأله ، إلا أنه يرى أنه يستهزئ به ، فبكى الإسرائيلي وقال : ولقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك ، إلا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضاه وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه; فقال يوما صيحون ، وهو ملك فارس ببابل : لو أنا بعثنا طليعة إلى الشام؟ قالوا : وما ضرك لو فعلت؟ قال : فمن ترون؟ قالوا : فلان ، فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف ، وخرج بختنصر في مطبخه ، لم يخرج إلا ليأكل في مطبخه; فلما قدم الشام ورأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، فكسر ذلك في ذرعه ، فلم يسأل قال : فجعل بختنصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل ، فلو غزوتموها ما دون بيت مالها شيء ، قالوا : لا نحسن القتال ، قال : فلو أنكم غزوتم ، قالوا : إنا لا نحسن القتال ولا نقاتل . حتى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثم رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى ، وجعل بختنصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان; فرفع ذلك إليه ، فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجلا جلدا ، كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، وإني لم أدع مجلسا بالشام إلا جالست أهله ، فقلت لهم كذا وكذا ، وقالوا لي كذا وكذا ، الذي ذكر سعيد بن جبير أنه قال لهم ، قال الطليعة لبختنصر : إنك فضحتني لك مائة ألف وتنزع عما قلت ، قال : لو أعطيتني بيت مال بابل ما نزعت ، ضرب الدهر من ضربه; فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغا ساغوا ، وإلا انثنوا ما قدروا عليه ، قالوا : ما ضرك لو فعلت؟ قال : فمن ترون؟ قالوا : فلان ، قال : بل الرجل الذي أخبرني ما أخبرني ، فدعا بختنصر وأرسله ، وانتخب معه أربعة آلاف من فرسانهم ، فانطلقوا فجاسوا خلال الديار ، فسبوا ما شاء الله ولم يخربوا ولم يقتلوا ، ومات صيحون الملك قالوا : استخلفوا رجلا قالوا : على رسلكم [ ص: 369 ] حتى تأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم ، لن ينقضوا عليكم شيئا ، أمهلوا; فأمهلوا حتى جاء بختنصر بالسبي وما معه ، فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا ، فملكوه .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام ، فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق ، فوجد بها دما يغلي على كبا : أي كناسة ، فسألهم ما هذا الدم؟ قالوا : أدركنا آباءنا على هذا وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن .

وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) قال : من جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ويسمعون حديثهم ، معهم بختنصر ، فوعى أحاديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعت فارس ولم يكن قتال ، ونصرت عليهم بنو إسرائيل ، فهذا وعد الأولى .

حدثني الحرث ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) جند جاءهم من فارس يتجسسون أخبارهم ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ) قال : ذلك أي من جاءهم من فارس ، ثم ذكر نحوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية