الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان وظائف المرشد المعلم .

اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحالة في اقتناء الأموال إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسبا وحال ادخار لما اكتسبه فيكون به غنيا عن السؤال وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعا وحال بذل لغيره فيكون به سخيا متفضلا وهو أشرف أحواله .

فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال فله حال طلب واكتساب وحال تحصيل يغني عن السؤال وحال استبصار وهو التفكر في المحصل والتمتع به وحال تبصير وهو أشرف الأحوال فمن علم وعمل وعلم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السموات فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره وهو خال عن العلم وكالمسن الذي يشحذ غيره ولا يقطع والإبرة التي تكسو غيرها وهي عارية وذبالة المصباح تضيء لغيرها وهي تحترق كما قيل .

ما هو إلا ذبالة وقدت تضيء للناس وهي تحترق ومهما اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه ووظائفه

التالي السابق


( بيان وظائف المعلم المرشد)

وفي بعض النسخ بتقديم المرشد على المعلم، وفي أخرى وبواو العطف، وإنما وصفه بالمرشد لأن القصد من التعليم في الحقيقة هو الإرشاد في سبيل الله تعالى، ومتى فارقه لم ينفعه وذهب نصبه مجانا، وقد يكون المراد بالمعلم لطريق الظاهر وبالمرشد لطريق الباطن وجمع بينهما ليعم جميع أنواع التعليم ( اعلم أن للإنسان في علمه) إذا أراد تحصيله ونص الذريعة: في استفادة العلم وإفادته ( أربعة أحوال) لا يخلو منها ( كما أن له في اقتناء الأموال) وتحصيلها أربعة أحوال أيضا ( إذ لصاحب المال حالة استفادة) من أي وجه كان ( فيكون) بها ( مكتسبا و) له أيضا ( حال ادخار) وجمع ( لما اكتسبه) وحصله ( فيكون به غنيا عن السؤال) أي: يحصل له بذلك حالة عفة عن التطلع إلى الغير ( وحال إنفاق على نفسه) بصرفه فيما يحتاج إليه من مطعم ومشرب وملبس ومنكوح ومسكن ومركوب، ( فيكون به منتفعا) قاصرا ذلك على نفسك، وفي معناه إذ أنفق على عياله فيما يحتاجون إليه; لأنهم في الحقيقة بمنزلة نفس الإنسان .

( وحال بذل لغيره) من المستحقين وذوي الحاجات، ونص الذريعة: وحال إفادته غيره ( فيكون به سخيا متفضلا) والسخاء إعطاء ما ينبغي لما ينبغي وتحته أنواع، والتفضل هو التطوع زاد المصنف ( وهو أشرف أحواله) وأكملها وأجلها لتعدي نفعه إلى الغير قاله صاحب الذريعة، ( فكذلك العلم يقتنى) ويجمع ( كالمال فله) أي: للعلم أربعة أحوال أيضا ( حال طلب واكتساب) من هنا ومن هناك .

( وحال تحصيل) وادخار ( يغني عن السؤال) والالتفات إلى الغير ( وحال استبصار) واستنارة ( وهو التفكر) والتدبر ( في المحص) أي: فيما حصله ( والتمتع) أي: الانتفاع ( به وحال تبصير) لغيره وهو التعليم وهو بمنزلة إنفاق المال للغير ( وهو أشرف الأحوال) وأكملها لتعدي نفعه، أما شرف العلم فظاهر بما سبق، وأما شرف العمل فإن العلم إنما يراد له فإنه بمنزلة الدليل للسائر فإذا لم يسر خلف الدليل لم ينتفع بدلالته فنزل منزلته من لم يعلم شيئا، كما أن من ملك ذهبا وفضة وجاع وعري ولم يشتر منهما ما يأكل ويلبس فهو بمنزلة الفقير العادم كما قيل:


ومن ترك الإنفاق عند احتياجه مخافة فقر فالذي فعل الفقر

فإذا ثبت للمرء العلم والعمل وهما شريفان فالتعليم أشرف كما قال، وقد أشار إلى مقام التحصيل والتمتع والتبصير بقوله ( فمن علم) أي: حصل العلم باكتسابه ( وعمل) أي: انتفع به بعد تحصيله ( وعلم) أي: أنفقه على غيره ( فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السماء) وهذا قد تقدم للمصنف في باب فضيلة التعليم وعزاه إلى سيدنا عيسى عليه السلام، وذكرنا هنالك أن العراقي لم يخرجه ولم يشر إليه، وقد أخرجه أبو خيثمة زهير بن حرب في كتاب العلم من طريق عبد العزيز بن ظبيان، قال: قال المسيح عيسى ابن مريم: من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء; ( فإنه كالشمس) المنيرة ( تضيء لغيرها) بأنوارها، ( وهي مضيئة [ ص: 335 ] في نفسها) وقد كثر تشبيه العلماء العاملين المفيدين بالشمس وبالقمر في كلامهم وسياقاتهم نظما ونثرا ( وكالمسك) أيضا وهو طيب معروف، وقد ورد: أطيب الطيب المسك ( الذي يطيب) غيره بمجرد المجاورة ولو لم يلامسه ( وهو طيب) في نفسه، واقتصر في تشبيهه لهم بالشمس والمسك، لكون كل منهما أشرف في جنسه، وأعم نفعا فالشمس أشرف الأجرام العلوية، ونفعها بين، والمسك أشرف الروائح الطيبة، ومنافعه مشهورة .

وأما تضرر بعضهم منه لضعف المزاج، ونص الذريعة: ومن أصاب مالا فانتفع به ونفع مستحقيه كان كالشمس تضيء غيرها وهي مضيئة، والمسك الذي يطيب وهو طيب، وهذا أشرف المنازل، ثم بعده من استفاد علما فاستبصر به ( والذي يعلم) أي: يحصل العلم ( ولا يعمل به) فإنه ( كالدفتر) كجعفر، وحكي كسر الدال عن الفراء، وحكاه كراع عن اللحياني، وهو عربي صحيح، كما في المصباح فيلحق بنظائر درهم وهو جماعة الصحف المضمومة، وقال الجوهري: واحد الدفاتر وهي الكراريس، وفي القاموس: جماعة الصحف المضمومة .

وقال ابن دريد: ولا يعرف اشتقاقه، وبعض العرب يقول: تفتر بالتاء على البدل، وقيل: هو جريدة الحساب، ونص الذريعة: فأما من أفاد غيره علمه ولم ينتفع هو به كالدفتر ( الذي يفيد غيره) بالمطالعة فيه، والاستفادة منه ( وهو خال عن العلم) بنفسه، ونص الذريعة: يفيد غيره الحكمة وهو عادمها، ثم قال: وهو أيضا ( مثل المسن) بكسر الميم حجر معروف يسن عليه الحديد جمعه مسان، ( الذي يشخذ) أي: يسن ( غيره) من الحديد ( ولا يقطع) بنفسه ولذلك قيل:


فما أنت إلا كشبه المسن يسن الحديد ولا يقطع

( و) هو أيضا مثل ( الإبرة) وهي المخيط ( التي تكسو غيرها) بعملها ( وهي عارية) دائما، ونص الذريعة: وكالمغزل يكسو ولا يكتسي ثم قال: ( و) هو أيضا مثل ( ذبالة المصباح) بالضم أي فتيلته، وفي معناه ذبالة الشمع ( تضيء لغيرها) بأنوارها ( وهي تحترق) بنفسها من غير فائدة لها ( كما قيل) في معناه ( ما هي إلا ذبالة وقدت) وفي مختصر الأصل للمراغي:


صرت كأني ذبالة نصبت ( تضيء للناس وهي تحترق)

وقد أخرج الطبراني في الكبير، وابن ماجه والضياء المقدسي في المختارة، من حديث جندب رضي الله عنه، رفعه: مثل العالم الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه.

وأخرج الطبراني أيضا والبزار عن أبي برزة الأسلمي بسند فيه ضعف: مثل الذي يعلم الناس الخير، وينسى نفسه مثل الفتيلة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، وقد ترك المصنف قسما ثالثا ذكره صاحب الذريعة وهو من استفاد علما ولم ينتفع به هو ولا غيره فإنه كالنخل يشرع شوكا لا يذود به عن حمله كف جار ولا منتهب ( ومهما اشتغل بالتعليم) بعد تهذيب نفسه بالعلم ( فقد تقلد أمرا عظيما) أي: تحمل أمرا يعظم وقعه في النفوس ( وخطرا جسيما) الخطر بالتحريك في الأصل السبق يتراهن عليه ثم استعير للشرف والمزية، وقدر الرجل ويقال: هو على خطر عظيم أي إشراف على الهلاك والجمع الأخطار ( فليحفظ آدابه) اللازمة له ( و) يستعمل ( وظائفه) التي تذكر هنا .




الخدمات العلمية