الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة أي: ذوي خلفة، يخلف كل منهما الآخر، بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، وروي هذا عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، وقيل: بأن يعقبه ويجيء بعده، وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس، ونصبه على أنه مفعول ثان لـ(جعل) أو حال إن كان بمعنى خلق، وجعله بعضهم بمعنى اختلافا، والمراد الاختلاف في الزيادة والنقصان - كما قيل - أو في السواد والبياض - كما روي عن مجاهد - أو فيما يعم ذلك وغيره، كما هو محتمل، وفي البحر يقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه، ومن هذا المعنى قول زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم



                                                                                                                                                                                                                                      وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا:


                                                                                                                                                                                                                                      ولها بالماطرون إذا     أكل النمل الذي جمعا
                                                                                                                                                                                                                                      خلفة حتى إذا ارتفعت     سكنت من جلق بيعا
                                                                                                                                                                                                                                      في بيوت وسط دسكرة     حولها الزيتون قد نبعا



                                                                                                                                                                                                                                      انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز عليه أن يكون المراد: يذهب كل منهما ويجيء كثيرا، واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي القاموس: الخلف والخلفة بالكسر المختلف، وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمعنى: جعلهما مختلفين، والإفراد لكونه مصدرا في الأصل.

                                                                                                                                                                                                                                      لمن أراد أن يذكر أي ليكونا وقتين للمتذكر، من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر، وروي هذا عن جماعة من السلف، وروى الطيالسي ، وابن أبي حاتم أن عمر - رضي الله تعالى عنه - أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ قال: إنه بقي علي من وردي شيء فأحببت أن أتمه، أو قال: أقضيه، وتلا هذه الآية ، وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات، وهو مما يتوقف الأداء عليه، وفي الكلام تقدير - كما أشير إليه - ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب.

                                                                                                                                                                                                                                      أو أراد شكورا أن يشكر الله تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن وردا له، وفي مجمع البيان: المعنى: لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة، ويجوز أن يكون المعنى: لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى، فيعلم أنه لا بد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد، أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم، وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثورا، والظاهر أن اللام على هذا صلة ( جعل ) ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه، وجوز أن تكون للتعليل و(أو) للتنويع على معنى الاشتمال على [ ص: 43 ] هذين المعنيين، أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع.

                                                                                                                                                                                                                                      وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال - ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية - ولعل في التعبير أولا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني - مع أنه أخصر - إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر، فتذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أبي بن كعب «أن يتذكر» وهو أصل لـ(يذكر) فأبدل التاء ذالا وأدغم، وقرأ النخعي ، وابن وثاب ، وزيد بن علي ، وطلحة ، وحمزة «أن يذكر» مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر.

                                                                                                                                                                                                                                      وعباد الرحمن كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له - عز وجل - وإضافتهم إلى الرحمن دون غيره من أسمائه تعالى وضمائره - عز وجل - لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم؛ لكونهم مرحومين منعما عليهم، كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق، وفي ذلك أيضا تعريض بمن قالوا: (وما الرحمن).

                                                                                                                                                                                                                                      والأكثرون أن عبادا هنا جمع عبد، وقال ابن بحر : جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال، ويوافقه قراءة اليماني (وعباد) بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع، وهو - على هذا - من العبادة، وهي أن يفعل ما يرضاه الرب، وعلى الأول من العبودية، وهي أن يرضى ما يفعله الرب، وقال الراغب : العبودية إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل، وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك، والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إحسان الله تعالى عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      قيل: وفوق ذلك العبودة، وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه - عز وجل - واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: فصل لربك وقرأ الحسن «وعبد» بضم العين والباء، وهو - كما قال الأخفش - جمع عبد، كسقف وسقف، وأنشد:


                                                                                                                                                                                                                                      انسب العبد إلى آبائه     أسود الجلدة من قوم عبد



                                                                                                                                                                                                                                      وهو - على كل حال – مبتدأ، وفي خبره قولان: الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة، والثاني - وهو الأقرب - أنه قوله تعالى:

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية