الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الحوادث التي كانت في سنة ثلاث عشرة من مولده صلى الله عليه وآله وسلم [عزم أبو طالب أن يسافر برسول الله صلى الله عليه وسلم معه إلى بصرى وتهيأ لذلك]

قال مؤلف الكتاب : لما أتت له اثنتا عشرة سنة وشهران وعشرة أيام ارتحل به أبو طالب إلى الشام .

فروى ابن إسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر قال:

لما تهيأ أبو طالب للخروج إلى الشام أصب به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرق له أبو طالب ، وقال: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا ، فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام وبها راهب يقال له بحيرا وهو في صومعة [له] ، وكان ذا علم في النصرانية ، ولم يزل في تلك الصومعة راهبا ، إليه يصير علمهم عن كتاب - فيما يزعمون - [أنهم] يتوارثونه كابرا عن كابر . [ ص: 293 ]

أخبرنا محمد بن عبد الباقي [البزاز] قال: أخبرنا الحسين بن علي الجوهري قال: أخبرنا ابن حيويه قال: أخبرنا أحمد بن معروف قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثنا محمد بن صالح ، وعبد الله بن جعفر الزهري .

قال محمد بن عمر: وأخبرنا ابن أبي حبيبة ، عن داود بن الحصين قال: لما خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرة الأولى وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، فلما نزل الركب بصرى من الشام وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له ، وكان علماء النصارى يكونون معه في تلك الصومعة يتوارثونها عن كتاب يدرسونه قال : فلما نزلوا ببحيرا ، وكان كثيرا ما يمرون به لا يكلمهم ، حتى إذا كان ذلك العام ، ونزلوا منزلا قريبا من صومعته قد كانوا ينزلونه قبل ذلك كلما مروا ، فصنع لهم طعاما ، ثم دعاهم ، وإنما حمله على دعائهم أنه رآهم حين طلعوا وغمامة تظل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين القوم ، حتى نزلوا تحت الشجرة ، ثم نظر إلى تلك الغمامة أظلت تلك الشجرة ، واحتضنت أغصان الشجرة على النبي صلى الله عليه وسلم حين استظل تحتها ، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته ، وأمر بذلك الطعام ، فأتي به ، فأرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، وأنا أحب أن تحضروه كلكم ولا تخلفوا منكم صغيرا ولا كبيرا ، حرا ولا عبدا فإن هذا شيء تكرمونني به .

فقال رجل: إن لك لشأنا يا بحيرا ، ما كنت تصنع بنا هذا ، فما شأنك اليوم؟! قال: فإني أحببت أن أكرمكم ، ولكم حق . فاجتمعوا إليه وتخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم - لحداثة سنه ، لأنه ليس في القوم أصغر سنا منه - [في رحالهم تحت الشجرة] ، فلما نظر بحيرا إلى القوم فلم ير الصفة التي يعرف ويجدها عنده وجعل [ ص: 294 ] ينظر فلا يرى الغمامة على أحد من القوم ، ويراها متخلفة على رأس [الشجرة على] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بحيرا: يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامي .

قالوا: ما تخلف أحد إلا غلام هو أحدث القوم سنا في رحالهم . فقال: ادعوه فليحضر طعامي ، فما أقبح أن تحضروا طعامي ويتخلف رجل واحد ، مع أني أراه من أنفسكم .

فقال القوم: هو أوسطنا نسبا ، وهو ابن أخي هذا الرجل - يعنون أبا طالب - وهو من ولد عبد المطلب .

فقال [ الحارث بن عبد المطلب :] والله إن كان بنا للوم أن يتخلف ابن عبد المطلب من بيننا ثم قام إليه واحتضنه وأقبل به حتى أجلسه على الطعام ، والغمامة تسير على رأسه ، وجعل بحيرا يلحظه لحظا شديدا ، وينظر إلى أشياء في جسده قد كان يجدها عنده من صفته ، فلما تفرقوا عن طعامهم قام إليه الراهب فقال: يا غلام أسألك بحق اللات والعزى ألا أخبرتني عما أسألك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسألني باللات والعزى ، فو الله ما أبغضت شيئا بغضهما" .

قال: فبالله ألا أخبرتني عما أسألك عنه؟ قال: سلني عما بدا لك . فجعل يسأله [عن أشياء] من حاله حتى نومه ، فجعل رسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عنده ، ثم [ ص: 295 ] جعل ينظر بين عينيه ، ثم كشف عن ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضع الصفة التي عنده ، فقبل موضع الخاتم .

فقالت قريش: إن لمحمد عند هذا الراهب لقدرا . وجعل أبو طالب لما يرى من [أمر] الراهب يخاف على ابن أخيه .

فقال الراهب لأبي طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال أبو طالب: ابني قال: ما هو بابنك ، وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا [قال: فابن أخي] قال: فما فعل أبوه؟ قال: هلك وأمه حبلى . قال: فما فعلت أمه؟ قال: توفيت قريبا . قال: صدقت ، ارجع بابن أخيك إلى بلده ، واحذر عليه اليهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه عنتا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم نجده في كتبنا ، وما روينا عن آبائنا ، واعلم أني قد أديت إليك النصيحة .

فلما فرغوا من تجارتهم خرج به سريعا وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرفوا صفته ، وأرادوا أن يغتالوه ، فذهبوا إلى بحيرا ، فذاكروه أمره ، فنهاهم أشد النهي ، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم ، قال: فما لكم إليه سبيل .

فصدقوه وتركوه ، ورجع به أبو طالب ، فما خرج به سفرا بعد ذلك خوفا عليه . [ ص: 296 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية