الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون اعتراض بين جملة وآية لهم الأرض وجملة وآية لهم الليل ، أثاره ذكر إحياء الأرض وإخراج الحب والشجر منها ؛ فإن في ذلك أحوالا وإبداعا عجيبا يذكر بتعظيم مودع تلك الصنائع بحكمته وذلك تضمن الاستدلال بخلق الأزواج على طريقة الإدماج .

وسبحان هنا لإنشاء تنزيه الله تعالى عن أحوال المشركين تنزيها عن كل ما لا يليق بإلهيته وأعظمه الإشراك به وهو المقصود هنا .

وإجراء الموصول على الذات العلية للإيماء إلى وجه إنشاء التنزيه والتعظيم . وقد مضى الكلام على " سبحان " في سورة البقرة وغيرها . والأزواج : جمع زوج وهو يطلق على كل من الذكر والأنثى من الحيوان ، ويطلق الزوج على معنى الصنف المتميز بخواصه من الموجودات تشبيها له بصنف الذكر وصنف الأنثى كما في قوله تعالى فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى وتقدم في سورة طه ، والإطلاق الأول هو الكثير كما يؤخذ من كلام الراغب ، وهو الذي يناسبه نقل اللفظ من الزوج الذي يكون ثانيا لآخر ، فيجوز أن يحمل الأزواج في هذه الآية على المعنى الأول ، فيكون تذكيرا بخلق أصناف الحيوان الذي منه الذكر والأنثى ، وتكون " من " في المواضع الثلاثة ابتدائية متعلقة بفعل " خلق " .

[ ص: 16 ] وهذا إدماج لذكر آية أخرى من آيات الانفراد بالخلق ، فخلق الحيوان بما فيه من القوى لتناسله وحماية نوعه وإنتاج منافعه ، هو أدق الخلق صنعا وأعمقه حكمة ، وأدخله في المنة على الإنسان ، بأن جعلت منافع الحيوان له كما في آية سورة المؤمنين . فمن أجل ذلك خص من بين الخلق الآخر بقرنه بالتسبيح لخالقه تنويها بشأنه وتفننا في سرد أعظم المواليد الناشئة عن إبداع قوة الحياة للأرض وانبثاق أنواع الأحياء وأصنافها منها ، كما أشار إليه الابتداء بذكر مما تنبت الأرض قبل غيره من مبادئ التخلق ؛ لأنه الأسبق في تكوين مواد حياة الحيوان فإنه يتولد من النطف الذكور والإناث ، وتتولد النطف من قوى الأغذية الحاصلة من تناول النبات فذلك من معنى قوله مما تنبت الأرض ومن أنفسهم أي ومما يتكون فيهم من أجزائهم الحيوانية .

وجيء بضمير جماعة العقلاء تغليبا لنوع الإنسان نظرا لكونه المقصود بالعبرة بهذه الآية ، وللتخلص إلى تخصيصه بالعبرة في قوله ومما لا يعلمون .

وإشارة قوله تعالى ومما لا يعلمون إلى أسرار مودعة في خلق أنواع الحيوان وأصنافه هي التي ميزت أنواعه عن بعض وميزت أصنافه وذكوره عن إناثه ، وأودعت فيه الروح الذي امتاز به عن النبات بتدبير شئونه على حسب استعداد كل نوع وكل صنف حتى يبلغ في الارتقاء إلى أشرف الأنواع وهو نوع الإنسان ، فمعنى مما لا يعلمون : مما لا يعلمونه تفصيلا وإن كانوا قد يشعرون به إجمالا ، فإن المتأمل يعلم أن في المخلوقات أسرارا خفية لم تصل أفهامهم إلى إدراك كنهها ، ومن ذلك الروح فقد قال تعالى قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا .

وقد يتفاضل الناس في إدراك بعض تلك الخصائص إجمالا وتفصيلا ثم يستوون في عدم العلم ببعضها ، وقد يمتاز بعض الطوائف أو الأجيال بمعرفة شيء من دقائق الخلق بسبب اكتشاف أو تجربة أو تقصي آثار لم يكن يعرفها غير أولئك ثم يستوون فيما بقي تحت طي الخفاء من دقائق التكوين ، فبهذا الشعور الإجمالي بها وقع عدها في ضمن الاعتبار بآية خلق الأزواج من جميع النواحي . وإذا حمل الأزواج في قوله سبحان الذي خلق الأزواج كلها على المعنى [ ص: 17 ] الثاني لهذا اللفظ وهو إطلاقه على الأصناف والأنواع كما في قوله فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كانت " من " في المواضع الثلاثة بيانية ، والمجرور بها في فحوى عطف البيان ، أو بدل مفصل من مجمل قوله " الأزواج " والمعنى : الأزواج كلها التي هي : ما تنبت الأرض ، وأنفسهم ، وما لا يعلمون . ويدل قوله ومما لا يعلمون على محذوف تقديره : وما يعلمون ، وذلك من دلالة الإشارة .

فخص بالذكر أصناف النبات لأن بها قوام معاش الناس ومعاش أنعامهم ودوابهم ، وأصناف أنفس الناس لأن العبرة بها أقوى ، قال تعالى وفي أنفسكم أفلا تبصرون . ثم ذكر ما يعم المخلوقات مما يعلمه الناس وما لا يعلمونه في مختلف الأقطار والأجيال والعصور .

وقدم ذكر النبات إيثارا له بالأهمية في هذا المقام لأنه أشبه بالبعث الذي أومأ إليه قوله وإن كل لما جميع لدينا محضرون .

وتكرير حرف " من " بعد واو العطف للتوكيد على كلا التفسيرين .

وضمير " أنفسهم " عائد إلى العباد في قوله يا حسرة على العباد ، والمراد بهم : المكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - .

التالي السابق


الخدمات العلمية