الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل أمر لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم، ولولاها لم يعتد بهم أصلا، أي: قل للناس مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر: ما يعبأ بكم ربي أي: أي عبء يعبأ بكم، وأي اعتداد يعتد بكم لولا دعاؤكم أي: عبادتكم له - عز وجل - حسبما مر تفصيله، فإن ما خلق له الإنسان معرفة الله تعالى وطاعته - جل وعلا - وإلا فهو والبهائم سواء، فما متضمنة لمعنى الاستفهام، وهي في محل النصب، وهي عبارة عن المصدر، وأصل العبء الثقل، وحقيقة قولهم: (ما عبأت به) ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبئا علي، كما تقول: ما اكترثت له، أي: ما أعددت له من كوارثي ومما يهمني.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : معناه: أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم، ويجوز أن تكون ما نافية، أي ليس يعبأ، وأيا ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: لولا دعاؤكم لما اعتد بكم، وهذا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه: فقد كذبتم بيان لحال الكفرة منهم، والمعنى: إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين، فالفاء مثلها في قوله:


                                                                                                                                                                                                                                      فقد جئنا خراسانا



                                                                                                                                                                                                                                      والتكذيب مستعار للمخالفة، وقيل: المراد فقد قصرتم في العبادة، على أنه من قولهم: (كذب القتال) إذا لم يبالغ فيه، والأول أولى، وإن قيل: إن المراد من التقصير في العبادة تركها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله ، وابن عباس ، وابن الزبير «فقد كذب الكافرون» وهو على معنى (كذب الكافرون منكم) لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه، وهو الذي اختاره الزمخشري ، واستحسنه صاحب الكشف، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش ، والمعنى عليه عند بعض: ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه، أي: لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم، وفيه معنى من قوله تعالى: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقيل: المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله - صلى الله تعالى عليه وسلم – أي: لولا إرادة ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما [ ص: 55 ] قال تعالى: ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وقيل: المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد، كما قال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله وقال سبحانه: فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون وقيل: المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه.

                                                                                                                                                                                                                                      وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى، فقد خصص بهم في قوله تعالى: فقد كذبتم فسوف يكون لزاما أي: جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم حتى يكبكم في النار، كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها، فضمير «يكون» لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره، وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل: الضمير للعذاب، وقد صرح به من قرأ «يكون العذاب لزاما» وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر ، وروي عن أبي ومجاهد وقتادة وأبي مالك ، ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى لزاما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن جريج (تكون) بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة، وقرأ المنهال ، وأبان بن ثعلب وأبو السمال «لزاما» بفتح اللام مصدر لزم، يقال: لزم لزوما ولزاما كثبت ثبوتا وثباتا، ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ «لزام» على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة، والله تعالى أعلم هذا.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية