الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين كانوا مع ما هم عليه من الكرم يشحون على فقراء المسلمين فيمنعونهم البذل تشفيا ، منهم فإذا سمعوا من القرآن ما فيه الأمر بالإنفاق أو سألهم فقراء المسلمين [ ص: 32 ] من فضول أموالهم أو أن يعطوهم ما كانوا يجعلونه لله من أموالهم الذي حكاه الله عنهم بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فلعل من أسلم من الفقراء سألوا المشركين ما اعتادوا يعطونهم قبل إسلامهم فيقولون أعطوا مما رزقكم الله ، وقد سمعوا منهم كلمات إسلامية لم يكونوا يسمعونها من قبل ، وربما كانوا يحاجونهم بأن الله هو الرزاق ولا يقع في الكون كائن إلا بإرادته ، فجعل المشركون يتعللون لمنعهم بالاستهزاء فيقولون : لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمه ، وإذا كان هذا رزقناه الله فلماذا لم يرزقكم ، فلو شاء الله لأطعمكم كما أطعمنا . وقد يقول بعضهم ذلك جهلا ؛ فإنهم كانوا يجهلون وضع صفات الله في مواضعها كما حكى الله عنهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .

وإظهار الموصول من قوله قال الذين كفروا في مقام الإضمار مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : قالوا أنطعم إلخ لنكتة الإيماء إلى أن صدور هذا القول منهم إنما هو لأجل كفرهم ولأجل إيمان الذين سئل الإنفاق عليهم .

روى ابن عطية : إن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أمر المشركين بالإنفاق على المساكين في شدة أصابت الناس فشح فيها الأغنياء على المساكين ومنعوهم ما كانوا يعطونهم .

واللام في قوله للذين آمنوا يجوز أن تكون لتعدية فعل القول إلى المخاطب به أي خاطبوا المؤمنين بقولهم أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ، ويجوز أن تكون اللام للعلة ، أي قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا ، أي قالوا في شأن الذين آمنوا كقوله تعالى الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا وقوله وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه أي قالوا ذلك تعلة لعدم الإنفاق على فقراء المؤمنين .

والاستفهام في " أنطعم " إنكاري ، أي لا نطعم من لو يشاء الله لأطعمهم بحسب اعتقادكم أن الله هو المطعم .

والتعبير في جوابهم بالإطعام مع أن المطلوب هو الإنفاق : إما لمجرد التفنن تجنبا لإعادة اللفظ فإن الإنفاق يراد منه الإطعام ، وإما لأنهم سئلوا الإنفاق وهو أعم من الإطعام لأنه يشمل الإكساء والإسكان فأجابوا بإمساك الطعام وهو أيسر [ ص: 33 ] أنواع الإنفاق ، ولأنهم كانوا يعيرون من يشح بإطعام الطعام وإذا منعوا المؤمنين الطعام كان منعهم ما هو فوقه أحرى .

وجملة إن أنتم إلا في ضلال مبين من قول المشركين يخاطبون المؤمنين ، أي ما أنتم في قولكم أنفقوا مما رزقكم الله وما في معناه من اعتقاد أن الله متصرف في أحوالنا إلا متمكن منكم الضلال الواضح . وجعلوه ضلالا لجهلهم بصفات الله ، وجعلوه مبينا لأنهم يحكمون الظواهر من أسباب اكتساب المال وعدمه .

والجملة تعليل للإنكار المستفاد من الاستفهام .

التالي السابق


الخدمات العلمية