الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          [ ص: 119 ] [ ص: 120 ] الباب الأول :

          في ثناء الله - تعالى - عليه وإظهاره عظيم قدره لديه

          اعلم أن في كتاب الله العزيز آيات كثيرة مفصحة بجميل ذكر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وعد محاسنه ، وتعظيم أمره ، وتنويه قدره ، اعتمدنا منها على ما ظهر معناه ، وبان فحواه ، وجمعنا ذلك في عشرة فصول :

          الفصل الأول :

          فيما جاء من ذلك مجيء المدح ، والثناء وتعداد المحاسن ، كقوله - تعالى - : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة : 128 ] الآية .

          قال السمرقندي : وقرأ بعضهم : " من أنفسكم " [ التوبة : 128 ] بفتح الفاء . وقراءة الجمهور بالضم .

          قال القاضي الإمام أبو الفضل وفقه الله تعالى - : أعلم الله - تعالى - المؤمنين ، أو العرب ، أو أهل مكة ، أو جميع الناس ، على اختلاف المفسرين من المواجه بهذا الخطاب : أنه بعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفونه ، ويتحققون مكانه ويعلمون صدقه وأمانته ، فلا يتهمونه بالكذب وترك النصيحة لهم ، لكونه منهم ، وأنه لم تكن في العرب قبيلة إلا ولها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولادة أو قرابة ، [ وهو عند ابن عباس وغيره معنى قوله - تعالى - : إلا المودة في القربى [ الشورى : 23 ] وكونه من أشرفهم ، وأرفعهم ، وأفضلهم ، على قراءة الفتح ، هذه نهاية المدح ، ثم وصفه بعد بأوصاف حميدة ، وأثنى عليه بمحامد كثيرة ، من حرصه على هدايتهم ورشدهم وإسلامهم ، وشدة ما يعنتهم ويضر بهم في دنياهم وأخراهم ، وعزته عليه ورأفته ورحمته بمؤمنهم . قال بعضهم : أعطاه اسمين من أسمائه : رءوف ، رحيم . ومثله في الآية الأخرى قوله - تعالى - : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [ آل عمران : 164 ] [ ص: 121 ] الآية

          وفي الآية الأخرى : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [ الجمعة : 2 ] الآية . وقوله - تعالى - : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم [ البقرة : 151 ] الآية .

          وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ، عنه - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى - : من أنفسكم [ التوبة : 129 ] قال : نسبا وصهرا وحسبا ، ليس في آبائي من لدن آدم سفاح ، كلها نكاح . قال ابن الكلبي : كتبت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة أم ، فما وجدت فيهن سفاحا ولا شيئا مما كان عليه الجاهلية . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى - : وتقلبك في الساجدين قال : من نبي إلى نبي ، حتى أخرجك نبيا . وقال جعفر بن محمد : علم الله عجز خلقه عن طاعته ، فعرفهم ذلك ، لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته ، فأقام بينهم وبينه مخلوقا من جنسهم في الصورة ، ألبسه من نعته الرأفة ، والرحمة ، وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا ، وجعل طاعته طاعته ، وموافقته موافقته ، فقال - تعالى - : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] . وقال - تعالى - : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] الآية .

          قال أبو بكر بن طاهر : زين الله - تعالى - محمدا - صلى الله عليه وسلم - بزينة الرحمة ، فكان كونه رحمة ، وجميع شمائله وصفاته رحمة على الخلق ، فمن أصابه شيء من رحمته فهو الناجي في الدارين من كل مكروه ، والواصل فيهما إلى كل محبوب ، ألا ترى أن الله تعالى يقول : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ الأنبياء : 107 ] ، فكانت حياته رحمة ، ومماته رحمة ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - : حياتي خير لكم وموتي خير لكم وكما قال - عليه الصلاة والسلام - : إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ، فجعله لها فرطا وسلفا .

          [ ص: 122 ] وقال السمرقندي : رحمة للعالمين : يعني للجن ، والإنس . قيل : لجميع الخلق ، للمؤمن رحمة بالهداية ، ورحمة للمنافق بالأمان من القتل ، ورحمة للكافر بتأخير العذاب . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : هو رحمة للمؤمنين والكافرين ، إذ عوفوا مما أصاب غيرهم من الأمم المكذبة .

          وحكي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - عليه السلام - : هل أصابك من هذه الرحمة شيء ؟ قال : نعم ، كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله - عز وجل - علي بقوله : ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [ التكوير : 20 - 21 ] الآية .

          وروي عن جعفر بن محمد الصادق في قوله - تعالى - : فسلام لك من أصحاب اليمين . أي بك ، إنما وقعت سلامتهم من أجل كرامة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال الله - تعالى - : الله نور السماوات والأرض [ النور : 35 ] الآية .

          قال كعب الأحبار ، وابن جبير : المراد بالنور الثاني هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقوله - تعالى - مثل نوره [ النور : 35 ] أي نور محمد - صلى الله عليه وسلم - .

          وقال سهل بن عبد الله : المعنى : الله هادي أهل السماوات ، والأرض ، ثم قال : مثل نور محمد إذ كان مستودعا في الأصلاب كمشكاة صفتها كذا ، وأراد بالمصباح قلبه ، والزجاجة صدره ، أي كأنه كوكب دري لما فيه من الإيمان والحكمة يوقد من شجرة مباركة أي من نور إبراهيم عليه الصلاة والسلام . وضرب المثل بالشجرة المباركة . وقوله : يكاد زيتها يضيء [ النور : 35 ] أي تكاد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - تبين للناس قبل كلامه كهذا الزيت . وقيل في هذه الآية غير هذا ، والله أعلم .

          وقد سماه الله - تعالى - في القرآن في غير هذا الموضع نورا وسراجا منيرا ، فقال - تعالى - : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ المائدة : 15 ] الآية . وقال - تعالى - : إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [ الأحزاب : 45 46 ] الآية . ومن هذا قوله - تعالى - : ألم نشرح لك صدرك [ الشرح : 1 ] . شرح : وسع . والمراد بالصدر هنا : القلب .

          [ ص: 123 ] قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : شرحه بنور الإسلام . وقال سهل : بنور الرسالة . وقال الحسن : ملأه حكما وعلما . وقيل : معناه ألم يطهر قلبك حتى لا يقبل الوسواس . ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك [ الشرح : 8 - 9 ] قيل : ما سلف من ذنبك يعني قبل النبوة . وقيل : أراد ثقل أيام الجاهلية . وقيل : أراد ما أثقل ظهره من الرسالة حتى بلغها . حكاه الماوردي ، والسلمي . وقيل : عصمناك ، ولولا ذلك لأثقلت الذنوب ظهرك ، حكاه السمرقندي . ورفعنا لك ذكرك [ الشرح : 4 ] .

          قال يحيى بن آدم : بالنبوة . وقيل : إذا ذكرت ذكرت معي في قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وقيل : في الآذان والإقامة .

          قال الفقيه القاضي أبو الفضل : هذا تقرير من الله جل اسمه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على عظيم نعمه لديه ، وشريف منزلته عنده ، وكرامته عليه ، بأن شرح قلبه للإيمان والهداية ، ووسعه لوعي العلم ، وحمل الحكمة ، ورفع عنه ثقل أمور الجاهلية عليه ، وبغضه لسيرها ، وما كانت عليه بظهور دينه على الدين كله ، وحط عنه عهدة أعباء الرسالة ، والنبوة لتبليغه للناس ما نزل إليهم ، وتنويهه بعظيم مكانه وجليل رتبته ، ورفعة ذكره ، وقرانه مع اسمه اسمه .

          قال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا ، والآخرة فليس خطيب ، ولا متشهد ، ولا صاحب صلاة إلا يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .

          [ ص: 124 ] وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل - عليه السلام - ، فقال : إن ربي وربك يقول : تدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : إذا ذكرت ذكرت معي .

          قال ابن عطاء : جعلت تمام الإيمان بذكرك معي . وقال أيضا : جعلتك ذكرا من ذكري ، فمن ذكرك ذكرني .

          وقال جعفر بن محمد الصادق : لا يذكرك أحد بالرسالة إلا ذكرني بالربوبية . وأشار بعضهم في ذلك إلى مقام الشفاعة . ومن ذكره معه - تعالى - أن قرن طاعته بطاعته ، واسمه باسمه ، فقال - تعالى - : أطيعوا الله والرسول [ آل عمران : 132 ] . و آمنوا بالله ورسوله [ الحديد : 7 ] ، فجمع بينهما بواو العطف المشركة . ولا يجوز جمع هذا الكلام في غير حقه - صلى الله عليه وسلم - . قال : [ حدثنا الشيخ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الحافظ فيما أجازنيه ، وقرأته على الثقة عنه ] .

          قال : حدثنا أبو عمر النمري ، قال : حدثنا أبو محمد بن عبد المؤمن حدثنا أبو بكر بن داسة : حدثنا أبو داود السجزي ، حدثنا أبو الوليد الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن عبد الله بن يسار ، عن حذيفة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لا يقولن أحدكم ما شاء [ ص: 125 ] الله وشاء فلان ولكن ما شاء الله ثم شاء فلان .

          قال الخطابي : أرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الأدب في تقديم مشيئة الله - تعالى - على مشيئة من سواه ، واختارها بثم التي هي للنسق ، والتراخي ، بخلاف الواو التي هي للاشتراك . ومثله الحديث الآخر : أن خطيبا خطب عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما .

          فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : بئس خطيب القوم أنت ! قم . أو قال : اذهب
          . قال أبو سليمان : كره منه الجمع بين الاسمين بحرف الكناية لما فيه من التسوية . وذهب غيره إلى أنه كره له الوقوف على " يعصهما " . وقول أبي سليمان أصح ، لما روي في الحديث الصحيح أنه قال : ومن يعصهما فقد غوى ، ولم يذكر الوقوف على يعصهما . وقد اختلف المفسرون وأصحاب المعاني في قوله - تعالى - : إن الله وملائكته يصلون على النبي [ الأحزاب : 56 ] ، هل [ يصلون ] راجعة على الله - تعالى - ، والملائكة أم لا ؟ فأجازه بعضهم ، ومنعه آخرون ، لعلة التشريك ، وخصوا الضمير بالملائكة ، وقدروا الآية : إن الله يصلي ، وملائكته يصلون .

          وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : من فضيلتك عند الله أن جعل طاعتك طاعته ، فقال - تعالى - : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ النساء : 80 ] . وقد قال - تعالى - : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ آل عمران : 31 ] الآية .

          [ ص: 126 ] وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالوا : إن محمدا يريد أن نتخذه حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ، فأنزل الله - تعالى - : قل أطيعوا الله والرسول [ آل عمران : 32 ] فقرن طاعته بطاعته رغما لهم . وقد اختلف المفسرون في معنى قوله - تعالى - في أم الكتاب : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ الفاتحة : 6 - 7 ] ، فقال أبو العالية ، والحسن البصري : الصراط المستقيم هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيار أهل بيته وأصحابه ، حكاه عنهما أبو الحسن الماوردي ، وحكى مكي عنهما نحوه ، وقال : هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحباه : أبو بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - . وحكى أبو الليث السمرقندي مثله عن أبي العالية ، في قوله - تعالى - : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [ الفاتحة : 7 ] قال : فبلغ ذلك الحسن ، فقال : صدق والله ونصح .

          وحكى الماوردي ذلك في تفسير : اهدنا الصراط المستقيم [ الفاتحة : 6 ] .

          عن عبد الرحمن بن زيد ، وحكى أبو عبد الرحمن السلمي ، عن بعضهم ، في تفسير قوله - تعالى - : فقد استمسك بالعروة الوثقى [ لقمان : 22 ] إنه محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : الإسلام . وقيل : شهادة التوحيد .

          [ ص: 127 ] وقال سهل في قوله - تعالى - : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [ إبراهيم : 34 ] قال : نعمته بمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال - تعالى - : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون [ الزمر : 33 ] الآية .

          أكثر المفسرين على أن الذي جاء بالصدق هو محمد - صلى الله عليه وسلم - . وقال بعضهم : وهو الذي صدق به . وقرئ : صدق بالتخفيف . وقال غيرهم : الذي صدق به المؤمنون . وقيل : أبو بكر . وقيل : علي . وقيل : غير هذا من الأقوال .

          وعن مجاهد في قوله - تعالى - : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ الرعد : 28 ] قال : بمحمد - صلى الله عليه وسلم - .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية