الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 296 ] ( فصل ) : قال السائل : مشهور عندكم في الكتاب والسنة أن نبيكم كان مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل لكنهم محوه عنهما لسبب الرئاسة والمأكلة ، فالعقل يستشكل ذلك ، أفكلهم اتفقوا على محو اسمه من الكتب المنزلة من ربهم شرقا وغربا جنوبا وشمالا ؟ ! هذا أمر يستشكله العقل أعظم من نفيهم بألسنتهم ، لأنه يمكن الرجوع عما قالوا بألسنتهم والرجوع عما محوا أبعد .

والجواب : أن هذا السؤال مبني على فهم فاسد ، وهو أن المسلمين يعتقدون أن اسم النبي صلى الله عليه وسلم الصريح وهو محمد بالعربية مذكور في التوراة والإنجيل - وهما الكتابان المتضمنان الشريعتين - وأن المسلمين يعتقدون : أن اليهود والنصارى في جميع أقطار الأرض محوا ذلك الاسم وأسقطوه جملة واحدة من الكنائس ، وتواصوا بذلك بعدا وقربا ، وشرقا وغربا . وهذا لم يقله عالم من علماء المسلمين ، ولا أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه عنهم ، ولا رسوله ، ولا بكتهم به يوما من الدهر ، ولا قاله أحد من الصحابة ، ولا الأئمة بعدهم ، ولا علماء التفسير ، ولا المعتنون بأخبار الأمم وتواريخهم . وإن قدر أنه قاله بعض عوام المسلمين يقصد به نصر الرسول ، فقد قيل : يضر الصديق الجاهل أكثر مما يضر العدو العاقل . وإنما أتي هؤلاء من قلة فهم القرآن ، وظنوا أن قوله تعالى : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر [ ص: 297 ] دل على الاسم الخاص بالعربية في التوراة والإنجيل المخصوصين ، وإن ذلك لم يوجد ألبتة . فهذه ثلاث مقامات :

الأول : أن الرب سبحانه إنما أخبر عن كون رسوله مكتوبا عندهم ، أي الإخبار عنه وصفته ومخرجه ونعته ، ولم يخبر بأن صريح الاسم العربي مذكور عندهم في التوراة والإنجيل ، وهذا واقع في الكتابين كما سنذكر ألفاظهما إن شاء الله ، وهذا أبلغ من ذكره بمجرد اسمه ، فإن الاشتراك قد يقع في الاسم فلا يحصل التعريف والتمييز ، ولا يشاء أحد يسمى بهذا الاسم أن يدعي أنه هو إلا فعل ، إذا الحوالة إنما وقعت على مجرد الاسم ، وهذا لا يحصل به بيان ولا تعريف ولا هدى ، بخلاف ذكره بنعته وصفته وعلاماته ودعوته وصفة أمته ، ووقت مخرجه ونحو ذلك ، فإن هذا يعينه ويميزه ويحصر نوعه في شخصه . وهذا القدر مذكور في التوراة والإنجيل وغيرها من النبوات ، التي بأيدي أهل الكتاب كما سنذكرها ، ويدل عليه وجوه :

الوجه الأول : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحرص الناس على تصديقه واتباعه وإقامة الحجة على من خالفه وجحد نبوته ، ولا سيما أهل العلم والكتاب ، فإن الاستدلال عليهم [ ص: 298 ] بما يعلمون بطلانه قطعا لا يفعله عاقل ، وهو بمنزلة من يقول لرجل : علامة صدقي أنك فلان بن فلان ، وصفتك كيت وكيت ، وتعرف كيت وكيت ، ولم يكن الأمر كذلك بل بضده ، فهذا لا يصدر ممن له مسكة عقل ، ولا يصدقه أحد على ذلك ، ولا يتبعه أحد ، بل ينفر العقلاء كلهم عن تصديقه واتباعه ، والعادة تحيل سكوتهم عن الطعن عليه والرد والتهجين لقوله .

ومن المعلوم بالضرورة أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وزاده شرفا وصلاة وسلاما ، نادى معلنا في هاتين الأمتين اللتين هما أعلم الأمم في الأرض قبل مبعثه بأن ذكره ونعته وصفته بعينه عندهم في كتبهم ، وهو يتلو عليهم ذلك ليلا ونهارا ، سرا وجهارا في كل مجمع ، وكل ناد ، يدعوهم لذلك - يعني إلى تصديقه والإيمان به - فمنهم من يصدقه ويؤمن به ، ويخبر بما في كتبهم من نعته وصفته وذكره ، كما سيمر بك إن شاء الله تعالى .

وغاية المكذب الجاحد أن يقول : هذا الوصف حق ، ولكن لست أنت المراد به بل نبي آخر ، وهذا غاية ما يمكنه من المكابرة ، ولم تجز عنه هذه المكابرة إلا كشف عورته وإبداء الفضيحة بالكذب والبهتان ، فإن الصفات والنعوت والعلامات المذكورة عندهم منطبقة عليه حذو القذة بالقذة ، بحيث لا يشك من عرفها ورآه أنه هو [ ص: 299 ] كما عرفه سلمان ، وكما عرفه هرقل بتلك العلامات المذكورة التي سأل عنها أبا سفيان ، وطابقت ما عنده ، فقال : إن يكن ما تقول حقا فإنه نبي ، وسيملك ما تحت قدمي هاتين .

وكذلك من قدمنا ذكرهم من الأحبار والرهبان الذين عرفوه بنعته وصفته كما يعرفون أبناءهم . قال تعالى : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون

وقال في موضع آخر : الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون .

ومعلوم أن هذه المعرفة إنما هي بالنعت والصفة المكتوبة عندهم التي هي منطبقة عليه ، كما قال بعض المؤمنين منهم : والله لأحدنا أعرف به من ابنه ، إن أحدنا ليخرج من عند امرأته وما يدري ما يحدث بعده .

ولهذا أثنى الله سبحانه وتعالى على من عرف الحق منهم ، ولم يستكبر عن اتباعه فقال : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .

[ ص: 300 ] قال ابن عباس : لما حضر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي النجاشي وقرءوا القرآن ، سمع ذلك القسيسون والرهبان ، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق ، فقال الله تعالى : ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون . وقال سعيد بن جبير : بعث النجاشي من خيار أصحابه ثمانين رجلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليهم القرآن فبكوا ورقوا ، وقالوا : نعرف والله ، أنه الحق ، فأسلموا وذهبوا إلى النجاشي فأخبروه فأسلم ، فأنزل الله تعالى فيهم : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول الآيات . وقال السدي : كانوا اثني عشر رجلا ، سبعة من القسيسين وخمسة من الرهبان ، فلما قرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن بكوا وقالوا : ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين .

قال ابن عباس : هم محمد وأمته ، وهم القوم الصالحون الذين طمعوا أن يدخلهم الله فيهم ، والمقصود أن هؤلاء عرفوا أنه رسول الله بالنعت الذي عندهم ، فلم يملكوا أعينهم من البكاء ، وقلوبهم من المبادرة إلى الإيمان ، ونظير هذا قوله سبحانه وتعالى : قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا .

قال إمام أهل التفسير مجاهد : هم قوم من أهل الكتاب لما سمعوا القرآن خروا سجدا ، وقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا . كان الله عز وجل [ ص: 301 ] قد وعد على ألسنة أنبيائه ورسله أن يبعث في آخر الزمان نبيا عظيم الشأن ، يظهر دينه على الدين كله ، وتنتشر دعوته في أقطار الأرض ، وعلى رأس أمته تقوم الساعة .

وأهل الكتاب مجمعون على أن الله وعدهم بهذا النبي ، فالسعداء منهم عرفوا الحق فآمنوا به واتبعوه ، والأشقياء قالوا : نحن ننتظره ، ولم يبعث بعد رسولا ، وأولئك لما سمعوا القرآن من الرسول عرفوه أنه الرسول الموعود ، فخروا سجدا لله إيمانا به وبرسوله ، وتصديقا بوعده الذي أنجزه فرأوه عيانا فقالوا : سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا .

التالي السابق


الخدمات العلمية