الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 338 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا )

قال أبو جعفر ومعنى قوله جل ثناؤه : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) : ساء ما اشتروا به أنفسهم .

وأصل "بئس " "بئس " من "البؤس " ، سكنت همزتها ، ثم نقلت حركتها إلى "الباء " ، كما قيل في "ظللت " " ظلت " ، وكما قيل "للكبد " ، "كبد " - فنقلت حركة "الباء " إلى "الكاف " لما سكنت "الباء " .

وقد يحتمل أن تكون "بئس" ، وإن كان أصلها "بئس " ، من لغة الذين ينقلون حركة العين من "فعل " إلى الفاء ، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة ، كما قالوا من "لعب " "لعب " ، و من "سئم " "سئم " ، وذلك - فيما يقال - لغة فاشية في تميم .

ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ ، ووصلت ب "ما " .

واختلف أهل العربية في معنى "ما " التي مع "بئسما " . فقال بعض نحويي البصرة : هي وحدها اسم ، و"أن يكفروا " تفسير له ، نحو : نعم رجلا زيد ، و"أن ينزل الله " بدل من "أنزل الله " .

وقال بعض نحويي الكوفة : معنى ذلك : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا ، ف "ما " اسم "بئس " ، و "أن يكفروا " الاسم الثاني ، وزعم أن : "أن يكفروا " إن شئت جعلت "أن " في موضع رفع ، وإن شئت في موضع خفض ، أما الرفع : فبئس الشيء هذا أن يفعلوه ، وأما الخفض : فبئس [ ص: 339 ] الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا . قال : وقوله : ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم ) [ سورة المائدة : 80 ] كمثل ذلك ، والعرب تجعل "ما " وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التام ، كقوله : ( فنعما هي ) [ سورة البقرة : 271 ] ، و "بئسما أنت " ، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز :


لا تعجلا في السير وادلوها لبئسما بطء ولا نرعاها



قال أبو جعفر : والعرب تقول : لبئسما تزويج ولا مهر " ، فيجعلون "ما " وحدها اسما بغير صلة ، وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي "بئس " معرفة موقتة ، وخبره معرفة موقتة ، وقد زعم أن "بئسما " بمنزلة : بئس الشيء اشتروا به أنفسهم؛ فقد صارت "ما" بصلتها اسما موقتا؛ لأن "اشتروا " فعل ماض من صلة "ما " ، في قول قائل هذه المقالة . وإذا وصلت بماض من الفعل ، كانت معرفة موقتة معلومة ، فيصير تأويل الكلام حينئذ : "بئس شراؤهم كفرهم " . وذلك عنده غير جائز : فقد تبين فساد هذا القول .

وكان آخر منهم يزعم أن "أن " في موضع خفض إن شئت ، ورفع إن شئت! فأما الخفض : فأن ترده على "الهاء " التي في "به " على التكرير على كلامين : كأنك قلت : اشتروا أنفسهم بالكفر ، وأما الرفع : فأن يكون مكرورا على موضع "ما " التي تلي "بئس " . قال : ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك : "بئس الرجل عبد الله .

وقال بعضهم : "بئسما " شيء واحد يرافع ما بعده كما حكي عن العرب : [ ص: 340 ] " بئسما تزويج ولا مهر " فرافع "تزويج " "بئسما " ، كما يقال : "بئسما زيد ، وبئس ما عمرو " ، فيكون "بئسما " رفعا بما عاد عليها من "الهاء" . كأنك قلت : بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم ، وتكون "أن " مترجمة عن "بئسما " .

وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من جعل "بئسما " مرفوعا بالراجع من "الهاء " في قوله : ( اشتروا به ) ، كما رفعوا ذلك ب "عبد الله " إذ قالوا : "بئسما عبد الله " ، وجعل "أن يكفروا " مترجمة عن "بئسما " . فيكون معنى الكلام حينئذ : بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم ، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله ، وتكون "أن " التي في قوله : "أن ينزل الله " ، في موضع نصب؛ لأنه يعني به "أن يكفروا بما أنزل الله " من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده . موضع "أن " جزاء . وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن "أن " في موضع خفض بنية "الباء " ، وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها ، ولا خافض معها يخفضها . والحرف الخافض لا يخفض مضمرا .

وأما قوله : ( اشتروا به أنفسهم ) ، فإنه يعني به : باعوا أنفسهم كما : -

1534 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يقول : باعوا أنفسهم "أن يكفروا بما أنزل الله بغيا " .

1535 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسن قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : قال مجاهد : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يهود ، شروا الحق [ ص: 341 ] بالباطل ، وكتمان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بأن يبينوه .

قال أبو جعفر : والعرب تقول : "شريته " ، بمعنى بعته ، و"اشتروا " ، في هذا الموضع ، "افتعلوا " من "شريت " . وكلام العرب - فيما بلغنا - أن يقولوا : "شريت " بمعنى : بعت ، و"اشتريت " بمعنى : ابتعت ، وقيل : إنما سمي "الشاري " ، "شاريا " ، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته .

ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري :


وشريت بردا ليتني     من قبل برد كنت هامه



ومنه قول المسيب بن علس :


يعطى بها ثمنا فيمنعها     ويقول صاحبها ألا تشري؟

[ ص: 342 ]

يعني به : بعت بردا . وربما استعمل "اشتريت " بمعنى : بعت ، و"شريت " في معنى : "ابتعت " . والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت .

وأما معنى قوله : ( بغيا ) ، فإنه يعني به : تعديا وحسدا ، كما : -

1536 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : ( بغيا ) ، قال : أي حسدا ، وهم اليهود .

1537 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : ( بغيا ) ، قال : بغوا على محمد صلى الله عليه وسلم وحسدوه ، وقالوا : إنما كانت الرسل من بني إسرائيل ، فما بال هذا من بني إسماعيل؟‍! فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده .

1538 - حدثني المثنى قال : حدثنا آدم قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ( بغيا ) ، يعني : حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .

1539 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع مثله .

قال أبو جعفر : فمعنى الآية : بئس الشيء باعوا به أنفسهم ، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنزل الله من فضله وفضله : حكمته وآياته ونبوته على من يشاء من عباده - يعني به : على محمد صلى الله عليه وسلم - بغيا وحسدا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل ، ولم يكن من بني إسرائيل .

فإن قال قائل : وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر ، فقيل : ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله ) ؟ وهل يشترى بالكفر شيء؟

قيل : إن معنى : "الشراء " و "البيع " عند العرب ، هو إزالة مالك ملكه [ ص: 343 ] إلى غيره ، بعوض يعتاضه منه . ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا ، شرا أو خيرا ، فتقول : " نعم ما باع به فلان نفسه " و"بئس ما باع به فلان نفسه " ، بمعنى : نعم الكسب أكسبها ، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا . فكذلك معنى قوله جل ثناؤه : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فأهلكوها ، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم ، فقال : ( بئسما اشتروا به أنفسهم ) ، يعني بذلك : بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم ، وبئس العوض اعتاضوا ، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا ، إذ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك .

وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم وقومه من العرب ، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل ، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به ، مع علمهم بصدقه ، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - نظيره الآية الأخرى في سورة النساء ، وذلك قوله ، ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ) [ سورة النساء : 51 - 54 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية