الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                                      فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية

                                                                                                                                                                                                                                      الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين لما بين سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا أمر رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يقول لهم : إنني هداني ربي أي أرشدني بما أوحاه إلي إلى صراط مستقيم وهو ملة إبراهيم عليه السلام ، و دينا منتصب على الحال كما قال قطرب ، أو على أنه مفعول هداني كما قال الأخفش ، وقيل : منتصب بفعل يدل عليه هداني ، لأن معناه عرفني : أي عرفني دينا ، وقيل : إنه بدل من محل إلى صراط ، لأن معناه هداني صراطا مستقيما كقوله تعالى : ويهديكم صراطا مستقيما ( الفتح : 20 ) وقيل : منصوب بإضمار فعل ، كأنه قيل : اتبعوا دينا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " قيما " قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف ، والتخفيف وفتح الياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشددة ، وهما لغتان : ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه ، وهو صفة لدينا وصف به مع كونه مصدرا مبالغة ، وانتصاب ملة إبراهيم على أنها عطف بيان لدينا ، ويجوز نصبها بتقدير أعني ، و حنيفا منتصب على أنه حال من إبراهيم ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال علي بن سليمان : هو منصوب بإضمار أعني .

                                                                                                                                                                                                                                      والحنيف المائل إلى الحق ، وقد تقدم تحقيقه وما كان من المشركين في محل نصب معطوف على حنيفا ، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : قل إن صلاتي أمره الله سبحانه أن يقول لهم : بهذه المقالة عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة ، قيل : ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأول إشارة إلى أصول الدين ، وهذا إلى فروعها .

                                                                                                                                                                                                                                      والمراد بالصلاة جنسها فيدخل فيه جميع أنواعها ، وقيل : المراد بها هنا صلاة الليل ، وقيل : صلاة العيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والنسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم : أي ذبيحتي في الحج والعمرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الحسن : ديني .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج : عبادتي من قولهم : نسك فلان هو ناسك : إذا تعبد ، وبه قال جماعة من أهل العلم ومحياي ومماتي أي ما أعمله في حياتي ومماتي من أعمال الخير ، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات وأنواع القربات ، وقيل : نفس الحياة ونفس الموت لله قرأ الحسن " نسكي " بسكون السين .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون بضمها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ أهل المدينة " محياي " بسكون الياء .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان .

                                                                                                                                                                                                                                      قال النحاس : لم يجزه ، أي السكون أحد من النحويين إلا يونس ، وإنما أجازه لأن المدة التي في الألف تقوم مقام الحركة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري " محيى " من غير ألف وهي لغة عليا مضر ، ومنه قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع

                                                                                                                                                                                                                                      لله رب العالمين أي خالصا له لا شريك له فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      والإشارة بذلك إلى ما أفاده لله رب العالمين لا شريك له من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأنا أول المسلمين أي أول مسلمي أمته ، وقيل : أول المسلمين أجمعين ، لأنه وإن كان متأخرا في الرسالة فهو أولهم في الخلق ، ومنه قوله تعالى : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح الآية ، والأول أولى .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن جرير الطبري : استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر ، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديث علي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة قال : " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " إلى قوله : " وأنا أول المسلمين " قلت : هذا هو في صحيح مسلم مطولا ، وهو أحد التوجهات الواردة ، ولكنه مقيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة ، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويرشد إليه هو : اللهم باعد بيني وبين خطاياي إلى آخره ، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن مقاتل في قوله : إن صلاتي قال : يعني المفروضة ونسكي يعني الحج .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، عن سعيد بن جبير ، ونسكي قال : ذبيحتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرجا أيضا عن قتادة ، إن صلاتي ونسكي قال : حجي وذبيحتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن مجاهد في قوله : ونسكي قال : ذبيحتي في الحج والعمرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن قتادة ، في قوله : ونسكي قال : ضحيتي .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي قوله : وأنا أول المسلمين قال : من هذه الأمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه ، والبيهقي عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - : يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته ، وقولي : " إن صلاتي " إلى " وأنا أول المسلمين " ، قلت يا رسول الله : هذا لك ولأهل بيتك خاصة ، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة ؟ قال : لا بل للمسلمين عامة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية