الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 163 ] ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون )

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن الكفار كانت لهم عادات كثيرة وطرق مختلفة ، فمنها شدة حرصهم على الدنيا ورغبتهم في تحصيلها ، وقد أبطل الله هذه الطريقة بقوله : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها ) إلى آخر الآية ، ومنها أنهم كانوا ينكرون نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويقدحون في معجزاته ، وقد أبطل الله تعالى ذلك بقوله : ( أفمن كان على بينة من ربه ) ، ومنها أنهم كانوا يزعمون في الأصنام أنها شفعاؤهم عند الله ، وقد أبطل الله تعالى ذلك بهذه الآية ؛ وذلك لأن هذا الكلام افتراء على الله تعالى ، فلما بين وعيد المفترين على الله ، فقد دخل فيه هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ) إنما يورد في معرض المبالغة . وفيه دلالة على أن الافتراء على الله تعالى أعظم أنواع الظلم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى بين وعيد هؤلاء بقوله : ( أولئك يعرضون على ربهم ) وما وصفهم بذلك لأنهم مختصون بذلك العرض ؛ لأن العرض عام في كل العباد كما قال : ( وعرضوا على ربك صفا ) [الكهف : 48] وإنما أراد به أنهم يعرضون فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ) فحصل لهم من الخزي والنكال ما لا مزيد عليه . وفيه سؤالات :

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الأول : إذا لم يجز أن يكون الله تعالى في مكان ، فكيف قال : ( يعرضون على ربهم ) ؟ والجواب : أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب والسؤال ، ويجوز أيضا أن يكون ذلك عرضا على من شاء الله من الخلق بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثاني : من الأشهاد الذين أضيف إليهم هذا القول ؟

                                                                                                                                                                                                                                            الجواب : قال مجاهد : هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا . وقال قتادة ومقاتل : الأشهاد : الناس ، كما يقال : على رءوس الأشهاد ، يعني على رءوس الناس . وقال الآخرون : هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . قال الله تعالى : ( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين ) [الأعراف : 6] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة .

                                                                                                                                                                                                                                            السؤال الثالث : الأشهاد جمع فما واحده ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : يجوز أن يكون جمع شاهد ، مثل : صاحب وأصحاب ، وناصر وأنصار ، ويجوز أن يكون جمع شهيد ، مثل شريف وأشراف . قال أبو علي الفارسي : وهذا كأنه أرجح ؛ لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء [ ص: 164 ] على فعيل ، كقوله : ( ويكون الرسول عليكم شهيدا ) [البقرة : 143] . ( وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [النساء : 41] ثم لما أخبر عن حالهم في عذاب القيامة أخبر عن حالهم في الحال فقال : ( ألا لعنة الله على الظالمين ) ، وبين أنهم في الحال لملعونون من عند الله ، ثم ذكر من صفاتهم أنهم يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، يعني أنهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر والضلال ، فقد أضافوا إليه المنع من الدين الحق ، وإلقاء الشبهات ، وتعويج الدلائل المستقيمة ؛ لأنه لا يقال في العاصي : يبغي عوجا ، وإنما يقال ذلك فيمن يعرف كيفية الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشبهات وتقرير الضلالات .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال : ( وهم بالآخرة هم كافرون ) قال الزجاج : كلمة " هم " كررت على جهة التوكيد لثباتهم في الكفر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية