الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3615 ) مسألة ; قال : ( وشركة الأبدان جائزة ) . معنى شركة الأبدان ، أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم ، كالصناع يشتركون على أن يعملوا في صناعتهم ، فما رزق الله تعالى فهو بينهم .

                                                                                                                                            وإن اشتركوا فيما يكتسبون من المباح ، كالحطب ، والحشيش ، والثمار المأخوذة من الجبال ، والمعادن ، والتلصص على دار الحرب ، فهذا جائز . نص عليه أحمد ، في رواية أبي طالب ، فقال : لا بأس أن يشترك القوم بأبدانهم ، وليس لهم مال ، مثل الصيادين والنقالين والحمالين . قد { أشرك النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار وسعد وابن مسعود ، فجاء سعد بأسيرين ، ولم يجيئا بشيء } .

                                                                                                                                            وفسر أحمد صفة الشركة في الغنيمة ، فقال : يشتركان فيما يصيبان من سلب المقتول ; لأن القاتل يختص به دون الغانمين . وبهذا قال مالك . وقال أبو حنيفة : يصح في الصناعة ، ولا يصح في اكتساب المباح ، كالاحتشاش والاغتنام ; لأن الشركة مقتضاها الوكالة ولا تصح الوكالة في هذه الأشياء ; لأن من أخذها ملكها .

                                                                                                                                            وقال الشافعي شركة الأبدان كلها فاسدة ; لأنها شركة على غير مال . فلم تصح . كما لو اختلفت الصناعات . ولنا ، ما روى أبو داود والأثرم بإسنادهما ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : اشتركنا أنا وسعد وعمار يوم بدر ، فلم أجئ أنا وعمار بشيء ، وجاء سعد بأسيرين . ومثل هذا لا يخفى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أقرهم عليه ، وقال أحمد : أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : فالمغانم مشتركة بين الغانمين بحكم الله تعالى ، فكيف يصح اختصاص هؤلاء بالشركة فيها ؟ وقال بعض الشافعية : غنائم بدر كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان له أن يدفعها إلى من شاء .

                                                                                                                                            فيحتمل أن يكون فعل ذلك لهذا . قلنا : أما الأول ، فالجواب عنه أن غنائم بدر كانت لمن أخذها من قبل أن يشرك الله تعالى بينهم ، ولهذا نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { : من أخذ شيئا فهو له } . فكان ذلك من قبيل المباحات ; من سبق إلى أخذ شيء فهو له .

                                                                                                                                            ويجوز أن يكون شرك بينهم فيما يصيبونه من الأسلاب والنفل ، إلا أن الأول أصح لقوله : جاء سعد بأسيرين ، ولم أجئ أنا وعمار بشيء . وأما الثاني ، فإن الله تعالى إنما جعل الغنيمة لنبيه عليه السلام بعد أن غنموا واختلفوا في الغنائم ، فأنزل الله تعالى : { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول } . والشركة كانت قبل ذلك .

                                                                                                                                            ويدل على صحة هذا ، أنها لو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخل ; إما أن يكون قد أباحهم أخذها ، فصارت كالمباحات ، أو لم يبحها لهم ، فكيف يشتركون [ ص: 5 ] في شيء لغيرهم ؟ . وفي هذا الخبر حجة على أبي حنيفة أيضا ; لأنهم اشتركوا في مباح ، وفيما ليس بصناعة ، وهو يمنع ذلك ، ولأن العمل أحد جهتي المضاربة ، فصحت الشركة عليه كالمال ، وعلى أبي حنيفة ، أنهما اشتركا في مكسب مباح فصح ، كما لو اشتركا في الخياطة والقصارة ، ولا نسلم أن الوكالة لا تصح في المباحات ; فإنه يصح أن يستنيب في تحصيلها بأجرة ، فكذلك يصح بغير عوض إذا تبرع أحدهما بذلك ، كالتوكيل في بيع ماله .

                                                                                                                                            ( 3616 ) فصل : وتصح شركة الأبدان مع اتفاق الصنائع .

                                                                                                                                            فأما مع اختلافها ، فقال أبو الخطاب : لا تصح . وهو قول مالك ; لأن مقتضاها أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل يلزمه ، ويلزم صاحبه ، ويطالب به كل واحد منهما ، فإذا تقبل أحدهما شيئا مع اختلاف صنائعهما ، لم يمكن الآخر أن يقوم به ، فكيف يلزمه عمله ، أم كيف يطالب بما لا قدرة له عليه ، وقال القاضي : تصح الشركة ; لأنهما اشتركا في مكسب مباح ، فصح ، كما لو اتفقت الصنائع ، ولأن الصنائع المتفقة قد يكون أحد الرجلين أحذق فيها من الآخر ، فربما يتقبل أحدهما ما لا يمكن الآخر عمله ، ولم يمنع ذلك صحتها ، فكذلك إذا اختلفت الصناعتان .

                                                                                                                                            وقولهم : يلزم كل واحد منهما ما يتقبله صاحبه . قال القاضي : يحتمل أن لا يلزمه ذلك ; لأنهما كالوكيلين ; بدليل صحتهما في المباح ، ولا ضمان فيها . وإن قلنا : يلزمه . أمكنه تحصيل ذلك بالأجرة ، أو بمن يتبرع له بعمله . ويدل على صحة هذا ، أنه لو قال أحدهما : أنا أتقبل وأنت تعمل . صحت الشركة ، وعمل كل واحد منهما غير عمل صاحبه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية