الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        والذين [37] في موضع خفض معطوف على "للذين آمنوا" يجتنبون كبائر الإثم هذه قراءة المدنيين وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي (كبير الإثم) . والقراءة الأولى أبين لأنه إذا قرأ (كبير) توهم أنه واحد أكبرها ، وليس المعنى على ذلك عند أحد من أهل التفسير إلا شيئا قاله الفراء فعكس فيه قول أهل التفسير ، قال : "كبير الإثم" الشرك قال : وكبائر يراد بها كبير ، وهذا معكوس إنما يقال : كبير يراد به كبائر . يكون واحدا يدل على جمع ، وزعم أنه يستحب لمن قرأ "كبائر الإثم" أن يقرأ (والفواحش) فيخفض ، والقراءة بهذا مخالفة بحجة الإجماع وأعجب من هذا أنه زعم أنه يستحب القراءة به ثم قال : ولم أسمع أحدا قرأ به . والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر معروفة كثيرة وعن الصحابة وعن التابعين . ونحن نذكر من ذلك ما فيه كفاية لتبيين هذا . ونبين معنى الكبائر والاختلاف فيه إذا كان مما لا يسع أحدا جهله . ونبدأ بما صح فيها عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما لا مطعن في إسناده وتوليه من قول الصحابة والتابعين وأهل النظر بما فيه كفاية إن شاء الله . فمن ذلك ما حدثناه محمد بن إدريس بن أسود عن إبراهيم بن مرزوق قال : حدثنا وهب بن جرير قال : حدثنا شعبة عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أكبر الكبائر الإشراك بالله جل وعز وعقوق [ ص: 87 ] الوالدين المسلمين وقتل النفس وشهادة الزور أو قول الزور" . وقرئ على أحمد بن شعيب عن عبدة بن عبد الرحيم قال : أخبرنا ابن شميل قال : حدثنا شعبة قال : حدثنا فراس قال : سمعت الشعبي يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الكبائر الإشراك بالله جل وعز وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس" . قال أحمد : وأخبرنا إسحاق بن إبراهيم ثنا بقية حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معد أن أبا رهم السماعي حدثه عن أبي أيوب وهو خالد بن زيد الأنصاري بدري عقبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من جاء لا يشرك بالله شيئا ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم رمضان واجتنب الكبائر فإنه في الجنة" فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر قال : فقال : الإشراك بالله جل وعز وقتل النفس المسلمة والفرار يوم الزحف" قال أحمد : أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا سفيان عن الأعمش ومنصور عن أبي وائل عن أبي ميسرة عن عبد الله قال : قلت يا رسول الله أي الذنوب أعظم قال : "أن تجعل لله جل وعز ندا وهو خلقك" . قلت : ثم أي . قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك . قلت : ثم أي . قال : أن تزني بحليلة جارك" . قال أبو جعفر : فهذه أسانيد مستقيمة وفي حديث أبي أمامة زيادة على ما فيها من الكبائر فيه : أكل مال اليتيم وقذف المحصنة والغلول والسحر وأكل الربا فهذا جميع ما نعلمه ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر مفصلا مبينا فأما الحديث المجمل فالذي رواه أبو سعيد وأبو هريرة عن النبي [ ص: 88 ] صلى الله عليه وسلم أنها سبع فليس بناقض لهذا لأن قذف المحصنة واليمين الغموس والسحر داخلان في قول الزور ، وحديث ابن مسعود الذي فيه "أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك" داخل في قتل النفس المحرمة ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تكون الكبائر إلا هذه فيجب التسليم . وقد روى مسروق عن عبد الله بن مسعود أنه قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى رأس ثلاثين آية (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) فأولى ما قيل في الكبائر وأجمعه ما حدثناه علي بن الحسين قال : قال الحسين بن محمد الزعفراني قال : حدثنا أبو قطن عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال : سئل ابن عباس عن الكبائر فقال : كل ما نهى الله جل وعز عنه فهو من الكبائر ، حتى ذكر الطرفة ، وحدثنا بكر بن سهل قال : حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : الكبائر كل ما ختمه الله جل وعز بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب . قال أبو جعفر : فهذا قول حسن بين لأن الله جل وعز قال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم فعقل بهذا أن الصغائر لا يعذب عليها من اجتنب الكبائر : فإذا أعلم الله جل وعز أنه يدخل على ذنب النار علم أنه كبيرة وكذا إذا أمر أن يعذب صاحبه في الدنيا بالحد ، وكذا قال الضحاك : كل موجبة أوجب الله تعالى لأهلها العذاب فهي كبيرة وكل ما يقام عليه الحد فهو كبيرة . فهذا المعنى الذي بينا بعد ذكر الأحاديث المسندة فهو شرح أيضا قول [ ص: 89 ] الله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه وكل ما كان مثله .

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية