الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  تفضيل الأعمال المتعلقة بالنية :

                                                                  اعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام : طاعات ومعاص ومباحات .

                                                                  فأما المعاصي : فلا تتغير عن موضعها بالنية ، أعني أن المعصية لا تنقلب طاعة بالنية ، كالذي يغتاب إنسانا مراعاة لقلب غيره ، أو يطعم فقيرا من مال غيره ، أو يبني مدرسة أو مسجدا بمال حرام وقصده الخير ، فهذا كله جهل والنية لا تؤثر في إخراجه عن كونه ظلما وعدوانا ومعصية ، بل قصده الخير بالشر على خلاف مقتضى الشرع شر آخر ، فإن عرفه فهو معاند للشرع ، وإن جهله فهو عاص بجهله ؛ إذ طلب العلم فريضة على كل مسلم ، والخيرات إنما يعرف كونها خيرات بالشرع ، فكيف يمكن أن يكون الشر خيرا ؟ هيهات ، ولذلك قال " سهل " رحمه الله - تعالى - : "ما عصي الله بمعصية أعظم من الجهل " قيل : يا أبا محمد هل تعرف [ ص: 300 ] شيئا أشد من الجهل " ؟ قال : "نعم ، الجهل بالجهل " وهو كما قال ؛ لأن الجهل بالجهل يسد بالكلية باب التعلم ، فمن يظن بنفسه أنه عالم فكيف يتعلم ؟ وكذلك أفضل ما أطيع الله - تعالى - به العلم ، ورأس العلم العلم بالعلم . كما أن رأس الجهل الجهل بالجهل ، وقد قال - تعالى - : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [ النحل : 43 ، والأنبياء : 7 ] نعم ، للنية دخل في المعاصي وهو أنه إذا انضاف قصود خبيثة تضاعف وزرها وعظم وبالها .

                                                                  القسم الثاني الطاعات : وهي مرتبطة بالنيات في أصل صحتها وفي تضاعف فضلها .

                                                                  أما الأصل فهو أن ينوي بها عبادة الله - تعالى - لا غير ، فإن نوى الرياء صارت معصية . وأما تضاعف الفضل فبكثرة النيات الحسنة ، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوي بها خيرات كثيرة فيكون له بكل نية ثواب ؛ إذ كل واحدة حسنة ، ثم تضاعف كل حسنة بعشرة أمثالها كما ورد ، ومثاله القعود في المسجد فإنه طاعة ، ويمكن أن ينوي فيه نيات كثيرة حتى يصير من فضائل أعمال المتقين :

                                                                  أولها : أن يعتقد أنه بيت الله وأن داخله زائر الله .

                                                                  ثانيها : أن ينتظر الصلاة بعد الصلاة فيكون في صلاة .

                                                                  ثالثها : الترهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات والترددات .

                                                                  رابعها : عكوف الهم على الله ولزوم السر للفكر في الآخرة ، ودفع الشواغل الصارفة عنه بالاعتزال إلى المسجد .

                                                                  خامسها : التجرد لذكر الله أو لاستماع ذكره وللتذكر به .

                                                                  سادسها : أن يقصد إفادة العلم بأمر بمعروف ونهي عن منكر ؛ إذ المسجد لا يخلو عمن يسيء في صلاته أو يتعاطى ما لا يحل له ، فيأمره بالمعروف ويرشده إلى الدين فيكون شريكا معه في خيره الذي يعلم منه فتتضاعف خيراته .

                                                                  سابعها : أن يستفيد أخا في الله فإن ذلك غنيمة وذخيرة للدار الآخرة ، والمسجد معشش أهل الدين المحبين لله وفي الله .

                                                                  ثامنها : أن يترك الذنوب حياء من الله - تعالى - وحياء من أن يتعاطى في بيت الله ما يقتضي هتك الحرمة .

                                                                  فهذا طريق تكثير النيات ، وقس به سائر الطاعات ، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة وإنما تحضر في قلب العبد المؤمن بقدر جده في طلب الخير وتشمره له ، فبهذا تزكو الأعمال وتتضاعف الحسنات .

                                                                  القسم الثالث المباحات : وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات ، كالتطيب مثلا فإنه بقصد التلذذ والتنعم مباح ، وأما إذا نوى به اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترويح جيرانه ليستريحوا بروائحه ، ودفع الرائحة الكريهة عن نفسه التي تؤدي إلى إيذاء مخالطيه ، وزيادة فطنته وذكائه ليسهل عليه درك مهمات دينه بالفكر ، فهذا وأمثاله من النيات الحسنة التي لا يعجز عنها من غلب طلب الخير على قلبه مما ينال بها معالي الدرجات .

                                                                  وأما من قصد بالتطيب إظهار التفاخر بكثرة المال أو رياء الخلق ليذكر بذلك أو ليتودد إلى قلوب [ ص: 301 ] النساء الأجنبيات أو لغير ذلك ، فهذا يجعل الطيب معصية ويكون في القيامة أنتن من الجيفة .

                                                                  والمباحات كثيرة لا يمكن إحصاء النيات فيها فقس بهذا الواحد ما عداه ، ولهذا قال بعض السلف : "إني لأستحب أن يكون لي في كل شيء نية حتى في أكلي وشربي ونومي ودخولي للخلاء " وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى ؛ لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات البدن فهو معين على الدين ، فمن قصد من الأكل التقوي على العبادة ، ومن الوقاع تحصين دينه وتطييب قلب أهله والتوصل به إلى ولد صالح يعبد الله - تعالى - بعده كان مطيعا بأكله ونكاحه .

                                                                  وبالجملة فإياك ثم إياك أن تستحقر شيئا من حركاتك فلا تحترز من غرورها وشرورها ولا تعد جوابها يوم السؤال والحساب ؛ فإن الله مطلع عليك وشهيد : ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) [ ق : 18 ] وقد قال " الحسن " : "إن الرجل ليتعلق بالرجل يوم القيامة فيقول : بيني وبينك الله ، فيقول والله : ما أعرفك ، فيقول : بلى أنت أخذت لبنة من حائطي وأخذت خيطا من ثوبي " فهذا وأمثاله من الأخبار قطع قلوب الخائفين . فإن كنت من أولي العزم والنهى ولم تكن من المغترين فانظر لنفسك الآن ودقق الحساب على نفسك قبل أن يدقق عليك .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية