الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : اختلفوا في النبي ، عليه السلام هل يجوز له الحكم بالاجتهاد فيما لا نص فيه ؟

              والنظر في الجواز والوقوع ، والمختار جواز تعبده بذلك ; لأنه ليس بمحال في ذاته ولا يفضي إلى محال ومفسدة . فإن قيل : المانع منه أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح فكيف يرجم بالظن ؟ قلنا : فإذا استكشف فقيل له حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبد به ، فهل له أن ينازع الله فيه أو يلزمه أن يعتقد أن صلاحه فيما تعبد به ؟ فإن قيل : قوله نص قاطع يضاد الظن والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ فهما متضادان . قلنا : إذا قيل له ظنك علامة الحكم فهو يستيقن الظن والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ وكذلك اجتهاد غيره عندنا ، ويكون كظنه صدق الشهود ; فإنه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزورا في الباطن .

              فإن قيل فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكل حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه . قلنا : لو تعبد بذلك لجاز ، ولكن دل الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده كما دل على تحريم مخالفة الأمة كافة ، وكما دل على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ; لأن صلاح الخلق في اتباع رأي الإمام والحاكم وكافة الأمة فكذلك النبي .

              ومن ذهب إلى أن المصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ، ومنهم من جوز عليه الخطأ ولكن لا يقر عليه . فإن قيل : كيف يجوز ورود التعبد بمخالفة اجتهاده وذلك يناقض الاتباع وينفر عن الانقياد ؟ قلنا : إذا عرفهم على لسانه بأن حكمهم اتباع ظنهم وإن خالف ظن النبي كان اتباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود ، فإنه لو قضى النبي بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما

              وأما التنفير فلا يحصل بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة ، وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا . فإن قيل : لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا ؟ إن قلتم : لا . فمحال لأنه صار منصوصا عليه من جهته ، وإن قلتم : نعم . فكيف يجوز القياس على الفرع ؟ قلنا : يجوز القياس عليه وعلى كل فرع أجمعت الأمة على إلحاقه بأصل لأنه صار أصلا بالإجماع والنص ، فلا ينظر إلى مأخذهم ; وما ألحقه بعض العلماء فقد جوز بعضهم القياس عليه وإن لم توجد علة الأصل .

              أما الوقوع فقد قال به قوم وأنكره آخرون وتوقف فيه فريق ثالث وهو الأصح فإنه لم يثبت فيه قاطع . احتج القائلون به بأنه عوتب عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر وقيل : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } [ ص: 347 ] وقال النبي عليه السلام { لو نزل عذاب ما نجا منه إلا عمر } لأنه كان قد أشار بالقتل ولو كان قد حكم بالنص لما عوتب .

              قلنا : لعله كان مخيرا بالنص في إطلاق الكل أو قتل الكل أو فداء الكل ، فأشار بعض الأصحاب بتعيين الإطلاق على سبيل المنع عن غيره فنزل العتاب مع الذين عينوا لا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لكن ورد بصيغة الجمع ، والمراد به أولئك خاصة .

              واحتجوا بأنه لما قال : { لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها قال العباس إلا الإذخر } فقال صلى الله عليه وسلم : " إلا الإذخر " وقال في الحج : " هو للأبد ولو قلت لعامنا لوجب ، " { ونزل منزلا للحرب فقيل له : إن كان بوحي فسمعا وطاعة وإن كان باجتهاد ورأي فهو منزل مكيدة ، فقال : بل باجتهاد ورأي } فرحل . قلنا : أما الإذخر فلعله كان نزل الوحي بأن لا يستثنى الإذخر إلا عند قول العباس أو كان جبريل عليه السلام حاضرا فأشار عليه بإجابة العباس وأما الحج فمعناه : لو قلت لعامنا لما قلته إلا عن وحي ولوجب لا محالة .

              وأما المنزل فذلك اجتهاد في مصالح الدنيا ، وذلك جائز بلا خلاف إنما الخلاف في أمور الدين . احتج المنكرون لذلك بأمور :

              أحدها : أنه لو كان مأمورا به لأجاب عن كل سؤال ولما انتظر الوحي .

              الثاني أنه لو كان مجتهدا لنقل ذلك عنه واستفاض .

              الثالث : أنه لو كان لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير فيتهم بسبب تغير الرأي .

              قلنا : أما انتظار الوحي فلعله كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد أو نهي عن الاجتهاد فيه . وأما الاستفاضة بالنقل فلعله لم يطلع الناس عليه وإن كان متعبدا به ، أو لعله كان متعبدا بالاجتهاد إذا لم ينزل نص وكان ينزل النص فيكون كمن تعبد بالزكاة والحج إن ملك النصاب والزاد فلم يملك فلا يدل على أنه لم يكن متعبدا . وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليها ، فقد اتهم بسبب النسخ كما قال تعالى : { قالوا إنما أنت مفتر } ولم يدل ذلك على استحالة النسخ ، كيف وقد عوض هذا الكلام بجنسه فقيل : لو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهدين ولكان ثواب المجتهدين أجزل من ثوابه ؟

              وهذا أيضا فاسد ; لأن ثواب تحمل الرسالة والأداء عن الله تعالى فوق كل ثواب فإن قيل : فهل يجوز التعبد بوضع العبادات ونصب الزكوات وتقديراتها بالاجتهاد ؟ قلنا : لا محيل لذلك ولا يفضي إلى محال ومفسدة ، ولا بعد في أن يجعل الله تعالى صلاح عباده فيما يؤدي إليه اجتهاد رسوله لو كان الأمر مبنيا على الصلاح . ومنع القدرية هذا وقالوا : إن وافق ظنه الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع .

              وهذا فاسد ; لأنه لا يبعد أن يلقي الله في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده ، هذا هو الجواز العقلي أما وقوعه فبعيد وإن لم يكن محالا بل الظاهر أن ذلك كله كان عن وحي صريح ناص على التفصيل .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية