الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل : السفر في كتاب الله وسنة رسوله في القصر والفطر مطلق . ثم قد تنازع الناس في جنس السفر وقدره . أما جنسه فاختلفوا في نوعين .

                أحدهما : حكمه . فمنهم من قال : لا يقصر إلا في حج أو عمرة أو غزو . وهذا قول داود وأصحابه إلا ابن حزم قال ابن حزم وهو قول جماعة من السلف كما روينا من طريق ابن أبي عدي : حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن ابن مسعود قال : لا يقصر الصلاة إلا حاج أو مجاهد . وعن طاووس أنه كان يسأل عن قصر الصلاة فيقول : إذا خرجنا حجاجا أو عمارا صلينا ركعتين [ ص: 106 ] وعن إبراهيم التيمي أنه كان لا يرى القصر إلا في حج أو عمرة أو جهاد وحجة هؤلاء أنه ليس معنا نص يوجب عموم القصر للمسافر فإن القرآن ليس فيه إلا قصر المسافر إذا خاف أن يفتنه الذين كفروا وهذا سفر الجهاد . وأما السنة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قصر في حجه وعمره وغزواته فثبت جواز هذا والأصل في الصلاة الإتمام فلا تسقط إلا حيث أسقطتها السنة .

                ومنهم من قال : لا يقصر إلا في سفر يكون طاعة فلا يقصر في مباح كسفر التجارة . وهذا يذكر رواية عن أحمد والجمهور يجوزون القصر في السفر الذي يجوز فيه الفطر وهو الصواب ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة } رواه عنه أنس بن مالك الكعبي وقد رواه أحمد وغيره بإسناد جيد .

                وأيضا فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره عن { يعلى بن أمية أنه قال لعمر بن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } فقد أمن الناس : فقال : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته } وهذا يبين أن سفر الأمن يجوز فيه قصر العدد وإن كان ذلك صدقة من الله علينا أمرنا [ ص: 107 ] بقبولها . وقد قال طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد إن شئنا قبلناها وإن شئنا لم نقبلها فإن قبول الصدقة لا يجب ; ليدفعوا بذلك الأمر بالركعتين . وهذا غلط ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نقبل صدقة الله علينا والأمر للإيجاب وكل إحسانه إلينا صدقة علينا فإن لم نقبل ذلك هلكنا .

                وأيضا فقد ثبت عن { عمر بن الخطاب أنه قال : صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد خاب من افترى } . كما قال : صلاة الجمعة ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وهذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن للمسلمين الصلاة في جنس السفر ركعتين كما سن الجمعة والعيدين ولم يخص ذلك بسفر نسك أو جهاد .

                وأيضا فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر . وهذا يبين أن المسافر لم يؤمر بأربع قط وحينئذ فما أوجب الله على المسافر أن يصلي أربعا وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله لفظ يدل على أن المسافر فرض عليه أربع وحينئذ فمن أوجب على مسافر أربعا فقد أوجب ما لم يوجبه الله ورسوله .

                [ ص: 108 ] فإن قيل : قوله : " وضع " يقتضي أنه كان واجبا قبل هذا كما قال : " إنه وضع عنه الصوم " ومعلوم أنه لم يجب على المسافر صوم رمضان قط ; لكن لما انعقد سبب الوجوب فأخرج المسافر من ذلك سمي وضعا ولأنه كان واجبا في المقام فلما سافر وضع بالسفر كما يقال : من أسلم وضعت عنه الجزية مع أنها لا تجب على مسلم بحال .

                وأيضا فقد قال صفوان بن محرز ; قلت لابن عمر حدثني عن صلاة السفر قال أتخشى أن يكذب علي ؟ قلت لا . قال : ركعتان من خالف السنة كفر وهذا معروف رواه أبو التياح عن مورق العجل عنه وهو مشهور في كتب الآثار . وفي لفظ : صلاة السفر ركعتان ومن خالف السنة كفر . وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فبين أن صلاة السفر ركعتان وأن ذلك من السنة التي من خالفها فاعتقد خلافها فقد كفر . وهذه الأدلة دليل على أن من قال إنه لا يقصر إلا في سفر واجب فقوله ضعيف .

                ومنهم من قال : لا يقصر في السفر المكروه ولا المحرم ويقصر في المباح وهذا أيضا رواية عن أحمد . وهل يقصر في سفر النزهة ؟ فيه عن أحمد روايتان : وأما السفر المحرم فمذهب الثلاثة مالك والشافعي وأحمد لا يقصر فيه وأما أبو حنيفة وطوائف من السلف والخلف فقالوا يقصر في [ ص: 109 ] جنس الأسفار وهو قول ابن حزم وغيره وأبو حنيفة وابن حزم وغيرهما : يوجبون القصر في كل سفر وإن كان محرما كما يوجب الجميع التيمم إذا عدم الماء في السفر المحرم وابن عقيل رجح في بعض المواضع القصر والفطر في السفر المحرم .

                والحجة مع من جعل القصر والفطر مشروعا في جنس السفر ولم يخص سفرا من سفر . وهذا القول هو الصحيح ; فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر قال تعالى : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } كما قال في آية التيمم : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } الآية وكما تقدمت النصوص الدالة على أن المسافر يصلي ركعتين ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خص سفرا من سفر مع علمه بأن السفر يكون حراما ومباحا ولو كان هذا مما يختص بنوع من السفر لكان بيان هذا من الواجبات ولو بين ذلك لنقلته الأمة وما علمت عن الصحابة في ذلك شيئا .

                وقد علق الله ورسوله أحكاما بالسفر كقوله تعالى في التيمم : { وإن كنتم مرضى أو على سفر } وقوله في الصوم : { فمن كان منكم مريضا أو على سفر } وقوله { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } وقول النبي صلى الله عليه وسلم { يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن } وقوله [ ص: 110 ] { لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم } وقوله : { إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة } ولم يذكر قط في شيء من نصوص الكتاب والسنة تقييد السفر بنوع دون نوع فكيف يجوز أن يكون الحكم معلقا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ورسوله ذلك بل يكون بيان الله ورسوله متناولا للنوعين .

                وهكذا في تقسيم السفر إلى طويل وقصير وتقسيم الطلاق بعد الدخول إلى بائن ورجعي وتقسيم الأيمان إلى يمين مكفرة وغير مكفرة وأمثال ذلك مما علق الله ورسوله الحكم فيه بالجنس المشترك العام فجعله بعض الناس نوعين : نوعا يتعلق به ذلك الحكم ونوعا لا يتعلق من غير دلالة على ذلك من كتاب ولا سنة : لا نصا ولا استنباطا .

                والذين قالوا لا يثبت ذلك في السفر المحرم عمدتهم قوله تعالى في الميتة : { فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه } وقد ذهب طائفة من المفسرين إلى أن " الباغي " هو الباغي على الإمام الذي يجوز قتاله و " العادي " هو العادي على المسلمين وهم المحاربون قطاع الطريق . قالوا فإذا ثبت أن الميتة لا تحل لهم فسائر الرخص أولى وقالوا إذا اضطر العاصي بسفره أمرناه أن يتوب ويأكل ولا نبيح له إتلاف نفسه . وهذا القول معروف عن أصحاب الشافعي وأحمد .

                [ ص: 111 ] وأما أحمد ومالك فجوزا له أكل الميتة دون القصر والفطر . قالوا : ولأن السفر المحرم معصية والرخص للمسافر إعانة على ذلك فلا تجوز الإعانة على المعصية .

                وهذه حجج ضعيفة . أما الآية فأكثر المفسرين قالوا : المراد بالباغي الذي يبغي المحرم من الطعام مع قدرته على الحلال والعادي الذي يتعدى القدر الذي يحتاج إليه وهذا التفسير هو الصواب دون الأول ; لأن الله أنزل هذا في السور المكية : الأنعام والنحل وفي المدنية : ليبين ما يحل وما يحرم من الأكل والضرورة لا تختص بسفر ولو كانت في سفر فليس السفر المحرم مختصا بقطع الطريق والخروج على الإمام ولم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إمام يخرج عليه ولا من شرط الخارج أن يكون مسافرا والبغاة الذين أمر الله بقتالهم في القرآن لا يشترط فيهم أن يكونوا مسافرين ولا كان الذين نزلت الآية فيهم أولا مسافرين ; بل كانوا من أهل العوالي مقيمين واقتتلوا بالنعال والجريد فكيف يجوز أن تفسر الآية بما لا يختص بالسفر وليس فيها كل سفر محرم ؟ فالمذكور في الآية لو كان كما قيل لم يكن مطابقا للسفر المحرم فإنه قد يكون بلا سفر وقد يكون السفر المحرم بدونه .

                وأيضا فقوله ( { غير باغ } حال من ( { اضطر } فيجب أن يكون [ ص: 112 ] حال اضطراره وأكله الذي يأكل فيه غير باغ ولا عاد فإنه قال : { فلا إثم عليه } ومعلوم أن الإثم إنما ينفى عن الأكل الذي هو الفعل لا عن نفس الحاجة إليه فمعنى الآية : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد . وهذا يبين أن المقصود أنه لا يبغي في أكله ولا يتعدى . والله تعالى يقرن بين البغي والعدوان . فالبغي ما جنسه ظلم والعدوان مجاوزة القدر المباح كما قرن بين الإثم والعدوان في قوله : { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } فالإثم جنس الشر والعدوان مجاوزة القدر المباح فالبغي من جنس الإثم قال تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم } وقال تعالى { فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه } فالإثم جنس لظلم الورثة إذا كان مع العمد وأما الجنف فهو الجنف عليهم بعمد وبغير عمد ; لكن قال كثير من المفسرين الجنف الخطأ والإثم العمد ; لأنه لما خص الإثم بالذكر وهو العمد بقي الداخل في الجنف الخطأ ولفظ العدوان من باب تعدي الحدود كما قال تعالى : { وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } ونحو ذلك ومما يشبه هذا قوله : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } والإسراف مجاوزة الحد المباح وأما الذنوب فما كان جنسه شر وإثم .

                وأما قولهم : إن هذا إعانة على المعصية فغلط ; لأن المسافر مأمور [ ص: 113 ] بأن يصلي ركعتين كما هو مأمور أن يصلي بالتيمم . وإذا عدم الماء في السفر المحرم كان عليه أن يتيمم ويصلي وما زاد على الركعتين ليست طاعة ولا مأمورا بها أحد من المسافرين وإذا فعلها المسافر كان قد فعل منهيا عنه فصار صلاة الركعتين مثل أن يصلي المسافر الجمعة خلف مستوطن . فهل يصليها إلا ركعتين وإن كان عاصيا بسفره وإن كان إذا صلى وحده صلى أربعا ؟ .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية