الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما لا يجوز من النحل

                                                                                                          حدثنا يحيى عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف وعن محمد بن النعمان بن بشير أنهما حدثاه عن النعمان بن بشير أنه قال إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل ولدك نحلته مثل هذا فقال لا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتجعه

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          33 - باب ما لا يجوز من النحل

                                                                                                          بضم النون وإسكان الحاء المهملة ، مصدر نحله إذا أعطاه بلا عوض ، وبكسر النون وفتح الحاء جمع نحلة ، قال تعالى : ( وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ) ( سورة النساء : الآية 4 ) أي هبة من الله لهن وفريضة عليكم .

                                                                                                          1473 1431 - ( مالك عن ابن شهاب ) محمد بن مسلم الزهري ( عن حميد ) بضم الحاء ( بن عبد الرحمن بن عوف ) القرشي الزهري ، أحد الثقات الأثبات . ( وعن محمد بن النعمان بن بشير ) الأنصاري أبي سعيد التابعي الثقة ( أنهما حدثاه ) أي ابن شهاب ( عن النعمان بن بشير ) الخزرجي ، سكن الشام ثم ولي إمرة الكوفة ثم قتل بحمص سنة خمس وستين وله أربع وستون سنة ، صحابي وأبواه صحابيان ، هكذا رواه أكثر أصحاب الزهري ، وأخرجه النسائي من طريق الأوزاعي عن ابن شهاب أن محمد بن النعمان وحميد بن عبد الرحمن حدثاه عن بشير بن سعد ، جعله من مسند بشير ، فشذ بذلك ، والمحفوظ أنه عنهما عن النعمان [ ص: 81 ] ( أنه قال : إن أباه بشيرا ) بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس ، بضم الجيم وخفة اللام آخره مهملة ، الخزرجي البدري وشهد غيرها ، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة ، ويقال : إنه أول من بايع أبا بكر من الأنصار ، وقيل : عاش إلى خلافة عمر ، وقد روى هذا الحديث عن النعمان عدد كثير من التابعين منهم عروة بن الزبير عند مسلم وأبي داود والنسائي ، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان وأحمد والطحاوي ، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبي داود والنسائي ، وعبد الله بن عتبة بن مسعود عند أبي عوانة ، وعامر الشعبي في الصحيحين وأبي داود وأحمد والنسائي وابن ماجه ، وغيرهم . ( أتى به ) ولمسلم من طريق الشعبي عن النعمان : انطلق أبي يحملني ( إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ولابن حبان : فأخذ بيدي وأنا غلام . وجمع بينهما بأنه أخذ بيده فمشى معه بعض الطريق وحمله في بعضها لضعف سنه ، أو عبر عن استتباعه إياه بالحمل ( فقال : إني نحلت ) بفتح النون والمهملة وإسكان اللام ، أي أعطيت ( ابني هذا ) النعمان ( غلاما ) لم يسم ( كان لي ) وفي الصحيحين عن الشعبي عن النعمان : أعطاني أبي عطية ، فقالت عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فقال : إني أعطيت ابني من عمرة عطية . ولمسلم والنسائي : سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله فالتوى بها سنة ، أي مطلها . ولابن حبان : حولين ، وجمع بأن المدة أزيد من سنة فجبر الكسرة تارة وألغى أخرى ، قال : بدا له فوهبها لي ، فقالت له : لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) زاد في رواية للشيخين فقال : ألك ولد سواه ؟ قال : نعم ، قال : ( أكل ولدك ) بهمزة الاستفهام الاستخباري والنصب بقوله : ( نحلته ) أعطيته ( مثل هذا ؟ ) ولمسلم : أكلهم وهبت له مثل هذا ؟ ( قال : لا ) وفي رواية ابن القاسم في الموطأ للدارقطني عن مالك قال : لا والله يا رسول الله . وقال مسلم لما رواه من طريق الزهري : أما يونس ومعمر فقالا : أكل بنيك ؟ وأما الليث وابن عيينة فقالا : أكل ولدك ؟ قال الحافظ : ولا منافاة بينهما لأن لفظ ولد يشمل الذكور والإناث . وأما لفظ بنين فإن كانوا ذكورا فظاهر وإن كانوا إناثا وذكورا فعلى سبيل التغليب ، ولم يذكر ابن سعد لبشير ولدا غير النعمان ، وذكر له بنتا اسمها أبية بموحدة تصغير أبي ( فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فارتجعه ) بهمزة وصل مجزوم أمرا ، زاد في رواية للبخاري : فرجع فرد عطيته ، أي الغلام . وهو ما في أكثر الروايات عن النعمان ، ومثله في حديث جابر في السلم ، وفي رواية لابن حبان والطبراني [ ص: 82 ] عن الشعبي : أن النعمان خطب بالكوفة فقال : إن والدي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عمرة بنت رواحة نفست بغلام وإني سميته النعمان ، وإنها أبت أن تربيه حتى جعلت له حديقة من أفضل ما هو لي وأنها قالت : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه قوله : لا أشهد على جور . وجمع ابن حبان بالحمل على واقعتين : إحداهما عند ولادة النعمان وكانت العطية حديقة ، والأخرى بعد أن كبر النعمان وكانت عبدا . قال الحافظ : ولا بأس بجمعه ، لكن يبعد أن ينسى بشير بن سعد مع جلالته حكم المسألة حتى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيشهده على العطية الثانية بعد قوله في الأولى له : لا أشهد على جور . وجوز ابن حبان أن بشيرا ظن نسخ الحكم ، وقال غيره : إنه حمل الأمر على كراهة التنزيه أو ظن أنه لا يلزم من الامتناع في الحديقة الامتناع في العبد; لأن ثمن الحديقة غالبا أكثر من ثمن العبد ، قال : وظهر لي وجه في الجمع سليم من هذا الخدش ، ولا يحتاج إلى جوابه ، وهو أن عمرة لما امتنعت من تربيته إلا أن يهب له شيئا ، وهبه الحديقة تطييبا لخاطرها ثم بدا له فارتجعها; لأنه لم يقبضها منه أحد غيره ، فعاودته عمرة في ذلك فمطلها سنة أو سنتين ، ثم طابت نفسه أن يهب له بدل الحديقة غلاما ، ورضيت عمرة به لكن خشيت أن يرتجعه أيضا فقالت : أشهد على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . تريد تثبيت العطية وأمن رجوعه فيها ، ويكون مجيئه لإشهاده صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وهي الأخيرة ، وغاية ما فيها أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ بعض ، أو كان النعمان يقص تارة بعض القصة ويقص بعضها أخرى ، فسمع كل ما رواه فاقتصر عليه . وفي رواية للشيخين قال : لا تشهدني على جور ، وفي أخرى : لا أشهد على جور . ولمسلم فقال : فلا تشهدني إذا فإني لا أشهد على جور . وله أيضا : أشهد على هذا غيري . وفي حديث جابر : فليس يصلح هذا ، وإني لا أشهد إلا على حق . وللنسائي : وكره أن يشهد له . ولمسلم : اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر . ولأحمد : إن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم ، فلا تشهدني على جور ، أيسرك أن يكونوا إليك في البر سواء ؟ قال : نعم ، قال : فلا إذا . ولأبي داود : إن لهم عليك من الحق أن تعدل بينهم كما أن لك عليهم من الحق أن يبروك . وللنسائي : ألا سويت بينهم . وله ولابن حبان : سو بينهم . واختلاف الألفاظ في هذه القصة الواحدة يرجع إلى معنى واحد ، وتمسك به من أوجب التسوية في عطية الأولاد كطاوس وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق والبخاري وبعض المالكية ، والمشهور عن هؤلاء أنها باطلة وعن أحمد تصح ، وعنه يجوز التفاضل لسبب كأن يحتاج الولد لزمانته أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين . وقال أبو يوسف : تجب التسوية إن قصد بالتفضيل الإضرار ، واحتجوا أيضا بأنها مقدمة لواجب ; لأن قطع الرحم والعقوق [ ص: 83 ] محرمان فالمؤدي إليهما حرام والتفضيل يؤدي إليهما ، ثم اختلفوا في صفة التسوية : فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض المالكية والشافعية : العدل أن يعطى الذكر حظين كالميراث لأنه حظ الأنثى لو أبقاه الواهب حتى مات . وقال غيرهم : لا فرق بين الذكر والأنثى ، وفارق الإرث بأن الوارث راض بما فرض الله له بخلاف هذا ، وبأن الذكر والأنثى إنما يختلفان في الميراث بالعصوبة ، أما بالرحم المحددة فهما فيها سواء كالإخوة والأخوات من الأم ، والهبة للأولاد أمر بها صلة الرحم ، وظاهر الأمر بالتسوية يشهد لهذا القول ، واستأنسوا له بحديث ابن عباس رفعه : " سووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء " . أخرجه سعيد بن منصور والبيهقي من طريقه ، وإسناده حسن .

                                                                                                          وقال الجمهور : التسوية مستحبة ، فإن فضل بعضا صح وكره ، وندبت المبادرة إلى التسوية أو الرجوع حملا للأمر على الندب والنهي على التنزيه ، وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة : أحدها أن الموهوب للنعمان كان جميع مال والده ، ولذا منعه فلا حجة فيه على منع التفضيل ، حكاه ابن عبد البر عن مالك ، وتعقبه بأن كثيرا من طرق حديث النعمان صريح بالبعضية . وقال القرطبي : ومن أبعد التأويلات أن النهي إنما يتناول من وهب جميع ماله لبعض ولده كما ذهب إليه سحنون ، وكأنه لم يسمع في نفس هذا الحديث أن الموهوب كان غلاما وأنه وهب له لما سألته أمه الهبة من بعض ماله ، وهذا يعلم منه بالقطع أنه كان له مال غيره . ثانيها : أن العطية المذكورة لم تتنجز ، وإنما جاءبشير يستشير النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه بأن لا يفعل فترك ، حكاه الطحاوي وأكثر طرق الحديث ينابذه . ثالثها : أن النعمان كان كبيرا ولم يقبض الموهوب ، فجاز لأبيه الرجوع ، ذكره الطحاوي ، وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث خصوصا قوله " ارتجعه " فإنه يدل على تقدم وقوع القبض ، والذي تضافرت عليه الروايات أنه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره ، فأمر برد العطية بعدما كانت في حكم المقبوض . رابعها : أن قوله : " فارتجعه " دليل على الصحة; إذ لو لم تصح الهبة ما صح الرجوع ، وإنما أمره به لأن الوالد له أن يرجع فيما وهبه لولده ، وإن كان الأفضل خلاف ذلك ، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك . وفي الاحتجاج بذلك نظر ، والذي يظهر أن معنى " ارتجعه " ، أي لا تمض الهبة . ولا يلزم من ذلك تقدم صحتها . خامسها : أن قوله " أشهد على هذا غيري " إذن بالإشهاد عليه وإنما امتنع لأنه الإمام ، فكأنه قال : لا أشهد لأن الإمام ليس من شأنه الشهادة ، وإنما شأنه الحكم ، حكاه الطحاوي وارتضاه ابن القصار ، وتعقب بأنه لا يلزم من أن الإمام ليس من شأنه الشهادة أن يمتنع من تحملها ولا من أدائها إذا وجبت عليه ، وقد صرح المحتج بهذا أن الإمام إذا شهد عند بعض نوابه جاز ، وأما قوله إن " أشهد " صيغة إذن فليس [ ص: 84 ] كذلك بل هو للتوبيخ كما يدل عليه ألفاظ الحديث ، وبه صرح الجمهور في هذا الموضع . وقال ابن حبان : قوله " أشهد " صيغة أمر ، والمراد به نفي الجواز ، وهو كقوله لعائشة : " اشترطي لهم الولاء " . سادسها : دل قوله " ألا سويت بينهم " على أن الأمر للاستحباب والنهي للتنزيه ، وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة على هذه اللفظة ولا سيما وتلك الرواية وردت بعينها بصيغة الأمر حيث قال : سو بينهم . سابعها : في مسلم عن ابن سيرين ما يدل على أن المحفوظ في حديث النعمان : قاربوا بين أولادكم ، لا : سووا ، وتعقب بأن المخالفين لا يوجبون المقاربة كما لا يوجبون التسوية . ثامنها : التشبيه الواقع في التسوية بينهم بالتسوية منهم في بر الوالدين على أن الأمر للندب ، وتعقب بأن إطلاق الجور على عدم التسوية ، والمفهوم من قوله : لا أشهد إلا على حق ، يدل للوجوب ، وقد قال في آخر الرواية التي فيها التشبيه : فلا إذا ، لكن في التمهيد يحتمل أنه أراد بقوله : إلا على حق ، الحق الذي لا تقصير فيه عن أعلى مراتب الحق وإن كان ما دونه حقا . وقال غيره : الجور الميل عن الاعتدال فالمكروه أيضا جور اهـ . تاسعها : عمل أبي بكر وعمر بعده صلى الله عليه وسلم على عدم التسوية قرينة ظاهرة في أن الأمر للندب ، فأبو بكر نحل عائشة دون سائر ولده كما يأتي ، وعمر نحل ابنه عاصما دون سائر أولاده . ذكره الطحاوي وغيره . وقد أجاب عروة عن قصة عائشة بأن إخوتها كانوا راضين بذلك ، ويجاب بمثله عن قصة عمر . عاشرها : انعقاد الإجماع على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده ، فمن جاز أن يخرج جميع ولده عن ماله جاز له أن يخرج عن ذلك بعضهم . ذكره ابن عبد البر ، أي عن الشافعي وغيره ، ولا يخفى ضعفه فإنه قياس مع وجود النص ، وزعم بعضهم أن معنى " لا أشهد على جور " أي لا أشهد على ميل الأب لبعض أولاده . وفيه نظر ويرده قوله في الرواية : لا أشهد إلا على حق ، وفيه أن للأب الرجوع فيما وهبه لابنه وكذا للأم عند أكثر الفقهاء ، لكن قال مالك : إنما ترجع الأم إذا كان الأب حيا ، ومحل رجوع الأب ما لم يداين الابن أو ينكح للهبة ، وقال الشافعي : له الرجوع مطلقا ، وفيه ندب التألف بين الإخوة وترك ما يوقع بينهم الشحناء ويورث العقوق للآباء ، وأن عطية الأب لابنه الصغير في حجره لا يحتاج إلى قبض ، وأن الإشهاد فيها مغن عن القبض ، وكراهة تحمل الشهادة فيما ليس بمباح ، وأن الإشهاد في الهبة مشروع لا واجب ، وجواز الميل إلى بعض الأولاد والزوجات دون بعض ، وأن للإمام الأعظم أن يتحمل الشهادة ليحكم بعلمه عند من يجيزه أو يؤديها عند بعض نوابه ، ومشروعية استفصال الحاكم والمفتي عما يحتمل الاستفصال; لقوله : " ألك ولد غيره ؟ قال : نعم ، قال : أكل ولدك نحلته ؟ قال : لا ، قال : لا أشهد " . ففهم منه أنه لو قال نعم ، لشهد ، وأن للإمام التكلم في [ ص: 85 ] مصلحة الولد والمبادرة إلى قبول الحق ، وأمر الحاكم والمفتي بتقوى الله في كل حال .

                                                                                                          قال ابن المنير : وفيه إشارة إلى سوء عاقبة الحرص والتنطع; لأن عمرة لو رضيت بما وهبه زوجها لولده لما رجع فيه ، فلما اشتد حرصها في تثبيت ذلك أفضى إلى بطلانه ، وتعقبه في المصابيح بأن إبطالها ارتفع به جور وقع في القصة ، فليس من سوء العاقبة في شيء ، والحديث أخرجه البخاري في الهبة عن عبد الله بن يوسف ، ومسلم في الوصايا عن يحيى ، كلاهما عن مالك به ، وطرقه كثيرة في الصحيحين وغيرهما .




                                                                                                          الخدمات العلمية