الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 301 ] ( باب حد الشرب )

( ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاءوا به سكران فشهد الشهود عليه بذلك فعليه الحد ، [ ص: 302 ] وكذلك إذا أقر وريحها موجودة ) لأن جناية الشرب قد ظهرت ولم يتقادم العهد . والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام { من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه } .

( وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمد : يحد ) وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها والسكر لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف . وقال محمد : يحد ، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق ، [ ص: 303 ] غير أنه مقدر بالزمان عنده اعتبارا بحد الزنا ، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة قد تكون من غيره ، كما قيل :

يقولون لي انكه شربت مدامة فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا

وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود : فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه .

[ ص: 304 ] ولأن قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب ، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره ، والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل ، وإنما تشتبه على الجهال . وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر تقريره . وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة ، لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة ، ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا .

التالي السابق


( باب حد الشرب )

قدم حد الزنا عليه لأن سببه أعظم جرما ولذا كان حده أشد ، وأخر عنه حد الشرب لتيقن سببه ، بخلاف حد القذف لأن سببه هو القذف قد يكون صدقا ، وأخر حد السرقة وإن كان أشد لأن شرعيته لصيانة أموال الناس ، وصيانة الأنساب والعقل آكد من صيانة المال . بقي أنه أخره عن حد القذف لأن المال دون العرض فإنه جعل وقاية للنفس عن كل ما تكره .

( قوله ومن شرب الخمر فأخذ ) أي إلى الحاكم ( وريحها موجودة ) وهو غير سكران منها ويعرف كونه يحد إذا كان سكران بطريق الدلالة ( أو سكران ) أي جاءوا به إليه وهو سكران من غير الخمر من النبيذ ( فشهد الشهود عليه بذلك ) أي بالشرب في الأول وهو عدم السكر منها . وفي الثاني وهو السكر من غيرها ( فإنه يحد ) والشهادة بكل منهما مقيدة بوجود الرائحة فلا بد مع شهادتهما بالشرب أن يثبت عند الحاكم أن الريح قائم حال الشهادة وهو بأن يشهدا به وبالشرب أو يشهدا بالشرب فقط فيأمر القاضي باستنكاهه فيستنكه ويخبره بأن ريحها موجود ، وأما إذا جاءوا به من بعيد فزالت الرائحة فلا بد أن يشهدا بالشرب ويقولا أخذناه وريحها موجود لأن مجيئهم به من مكان بعيد لا يستلزم كونهم أخذوه في حال قيام الرائحة فيحتاجون إلى ذكر [ ص: 302 ] ذلك للحاكم خصوصا بعد ما حملنا كونه سكران من غير الخمر فإن ريح الخمر لا توجد من السكران من غيرها ، ولكن المراد هذا لأن الحد لا يجب عند أبي حنيفة وأبي يوسف بالشهادة مع عدم الرائحة ، فالمراد بالثاني أن يشهدوا بأنه سكر من غيرها مع وجود رائحة ذلك المسكر الذي هو غير الخمر ( وكذلك ) عليه الحد ( إذا أقر وريحها موجود لأن جناية الشرب قد ظهرت ) بالبينة والإقرار ( ولم يتقادم العهد . والأصل في ثبوت حد الشرب قوله صلى الله عليه وسلم { من شرب الخمر فاجلدوه ، ثم إن شرب فاجلدوه } )

إلى أن قال { فإن عاد الرابعة فاقتلوه } أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي من حديث معاوية . وروي من حديث أبي هريرة { فإذا سكر فاجلدوه . ثم إن سكر } إلخ . قال الترمذي : سمعت محمد بن إسماعيل يقول : حديث أبي صالح عن معاوية أصح من حديث أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه الذهبي .

ورواه الحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه والنسائي في سننه الكبرى ثم نسخ القتل . أخرج النسائي في سننه الكبرى عن محمد بن إسماعيل عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعا { من شرب الخمر فاجلدوه } إلخ ، قال { ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر في الرابعة فجلده ولم يقتله } وزاد في لفظ { فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد ارتفع } ورواه البزار في مسنده عن ابن إسحاق به { أنه عليه الصلاة والسلام أتي بالنعمان قد شرب الخمر ثلاثا فأمر به فضرب ، فلما كان في الرابعة أمر به فجلد الحد } ، فكان نسخا وروى أبو داود في سننه قال : حدثنا أحمد بن عبدة الضبي ، حدثنا سفيان .

قال الزهري : أنبأنا قبيصة بن ذؤيب { أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد في الثالثة أو الرابعة فاقتلوه ، فأتي برجل قد شرب فجلده ، ثم أتي به فجلده ، ثم أتي به فجلده ، ورفع القتل وكانت رخصة } وقال سفيان : حدث الزهري بهذا الحديث وعنده منصور بن المعتمر ومخول بن راشد فقال لهما : كونا وافدي أهل العراق بهذا الحديث ا هـ . وقبيصة في صحبته خلاف . وإثبات النسخ بهذا أحسن مما أثبته به المصنف في كتاب الأشربة من قوله عليه الصلاة والسلام { لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث } الحديث ، فإنه موقوف على ثبوت التاريخ . نعم يمكن أن يوجه بالنسخ الاجتهادي : أي تعارضا في القتل فرجح النافي له فيلزم الحكم بنسخه فإن هذا لازم في كل ترجيح عند التعارض ( قوله وإن أقر بعد ذهاب رائحتها لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد : يحد ، وكذلك إذا شهدوا عليه بعد ما ذهب ريحها ) أو ذهب السكر من غيرها ( لم يحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد يحد ، فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق [ ص: 303 ] غير أنه ) أي هذا التقادم ( مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا ) أنه ستة أشهر أو مفوض إلى رأي القاضي أو بشهر وهو المختار ( وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان ) بلا شك ( بخلاف الرائحة لأنها قد تكون من غيره كما قيل :

يقولون لي انكه شربت مدامة فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا

) وانكه بوزن امنع ، ونكه من بابه ; أي أظهر رائحة فمه .

وقال الآخر :

سفرجلة تحكي ثدي النواهد لها عرف ذي فسق وصفرة زاهد

فظهر أن رائحة الخمر مما تلتبس بغيرها فلا يناط شيء من الأحكام بوجودها ولا بذهابها ، ولو سلمنا أنها لا تلتبس على ذوي المعرفة فلا موجب لتقييد العمل بالبينة بوجودها ، لأن المعقول تقيد قبولها بعدم التهمة والتهمة لا تتحقق في الشهادة بسبب وقوعها بعد ذهاب الرائحة بل بسبب تأخير الأداء تأخيرا يعد تفريطا ، وذلك منتف في تأخير يوم ونحوه وبه تذهب الرائحة . أجاب المصنف وغيره بما حاصله أن اشتراط قيام الرائحة لقبول الشهادة عرف من قول ابن مسعود ، وهو ما روى عبد الرزاق : حدثنا سفيان الثوري عن يحيى بن عبد الله التميمي الجابر عن أبي ماجد الحنفي ، قال : جاء رجل بابن أخ له سكران إلى عبد الله بن مسعود ، فقال عبد الله : ترتروه ومزمزوه واستنكهوه ، ففعلوا فرفعه إلى السجن ، ثم عاد به من الغد ودعا بسوط ثم أمر به فدقت ثمرته بين حجرين حتى صارت درة ، ثم قال للجلاد : اجلد وأرجع يدك وأعط كل عضو حقه .

ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني ورواه إسحاق بن راهويه : أخبرنا جرير عن عبد الحميد عن يحيى بن عبد الله الجابر به . ودفع بأن محل النزاع كون الشهادة لا يعمل بها إلا مع قيام الرائحة . والحديث المذكور عن ابن مسعود ليس فيه شهادة منع من العمل بها لعدم الرائحة وقت أدائها بل ولا إقرار ، إنما فيه أنه حده بظهور الرائحة بالترترة والمزمزة . والمزمزة التحريك بعنف والترترة والتلتلة التحريك ، وهما بتاءين مثناتين من فوق . قال ذو الرمة يصف بعيرا :

بعيد مساف الخطو غوج شمردل تقطع أنفاس المهارى تلاتله

أي حركاته . والمساف جمع مسافة والغوج بالغين المعجمة الواسع الصدر .

ومعنى تقطيع تلاتله أنفاس المهارى : أنه إذا باراها في السير أظهر في أنفاسها الضيق والتتابع لما يجهدها ، وإنما فعله لأن بالتحريك تظهر الرائحة من [ ص: 304 ] المعدة التي كانت خفيت وكان ذلك مذهبه

ويدل عليه ما في الصحيحين { عن ابن مسعود أنه قرأ سورة يوسف فقال رجل : ما هكذا أنزلت ، فقال عبد الله : والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت ، فبينا هو يكلمه إذ وجد منه رائحة الخمر ، فقال : أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب ، فضربه الحد } .

وأخرج الدارقطني بسند صحيح عن السائب بن يزيد عن عمر بن الخطاب أنه ضرب رجلا وجد منه ريح الخمر ، وفي لفظ ريح شراب .

والحاصل أن حده عند وجود الريح مع عدم البينة والإقرار لا يستلزم اشتراط الرائحة مع أحدهما ، ثم هو مذهب لبعض العلماء منهم مالك وقول للشافعي ، ورواية عن أحمد ، والأصح عن الشافعي وأكثر أهل العلم نفيه . وما ذكرناه عن عمر يعارض ما ذكر عنه أنه عزر من وجد منه الرائحة ، ويترجح لأنه أصح ، وإن قال ابن المنذر ثبت عن عمر أنه جلد من وجد منه ريح الخمر حدا تاما ، وقد استبعد بعض أهل العلم حديث ابن مسعود من جهة المعنى ، وهو أن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا أن يرد أو يدرأ ما استطيع فكيف يأمر ابن مسعود بالمزمزة عند عدم الرائحة ليظهر الريح فيحده ، فإن صح فتأويله أنه كان رجلا مولعا بالشراب مدمنا عليه فاستجاز ذلك فيه .

وأما قوله ( ولأن قيام الرائحة من أقوى دلالة على القرب ، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتبار القرب ) ثم أجاب عما يتوهم من أن الرائحة مشتبهة بقوله ( والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل . وإنما تشتبه على الجهال ) فليس بمفيد لأن كونها دليلا على القرب لا يستلزم انحصار القرب فيها ليلزم من انتفائها ثبوت البعد والتقادم ، لأن القرب يتحقق بصور كثيرة لا بصورة واحدة هي عند قيام الرائحة لأن ذلك عين المتنازع فيه وهو المانع ، فقوله بعده وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره إن أراد أن اعتبار القرب بالرائحة فهو محل النزاع فقول محمد هو الصحيح .

( قوله وأما الإقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا ) لا يبطل الإقرار بالتقادم اتفاقا ( على ما مر تقريره ) من أن البطلان للتهمة ، والإنسان لا يتهم على نفسه ( وعندهما لا يقام الحد ) على المقر بالشرب ( إلا ) إذا أقر ( عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة ) رضي الله عنهم ( ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا ) بمعنى أنه لم يقل بالحد إلا إذا كان مع الرائحة فيبقى [ ص: 305 ] انتفاؤه في غيرها بالأصل لا مضافا إلى لفظ الشرط ، وأما إضافة ثبوته إلى الإجماع بعد قوله والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام إلخ فقيل لأنه من الآحاد ، وبمثله لا يثبت الحد والإجماع قطعي . ولا يخفى أن هذا مذهب الكرخي . فأما قول الجصاص وهو قول أبي يوسف فيثبت الحد بالآحاد بعد الصحة وقطعية الدلالة وهو المرجح . فإن كان المصنف يرى أنه لا يثبت به أشكل عليه جعله إياه أولا الأصل ، وإن لم يره أشكل نسبة الإثبات إلى الإجماع ، وأنت علمت أنه إنما ألزم قيامها عند الحد بلا إقرار ولا بينة كما هو ظاهر ما قدمناه . فإن ادعى أن ذلك كان مع إقراره فليبين في الرواية . وفي نوادر ابن سماعة عن محمد قال : هذا أعظم عندي من القول أن يبطل الحد بالإقرار وأنا أقيم عليه الحد وإن جاء بعد أربعين عاما




الخدمات العلمية