الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع

التالي السابق


(وأما الكفارة) الكلام أولا على أصلها ثم في موجبها ثم في كيفيتها أما أصلها فما رواه الستة من حديث أبي هريرة : "أن رجلا جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال : هلكت ، قال : ما شأنك ؟ قال : واقعت امرأتي في نهار رمضان قال : تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا ، قال : فاجلس فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بفرق فيه تمر فقال : خذ هذا فتصدق ، قال : أفعلى أفقر منا ؟ فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه وقال : أطعمه عيالك " وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث عائشة وله ألفاظ عندهما وقوله : "أطعمه عيالك " هو لفظ النسائي وابن ماجه في حديث أبي هريرة وفي رواية للدارقطني في العلل بإسناد جيد : "أن أعرابيا جاء يلطم وجهه وينتف شعره ويضرب ويقول : هلك الأبعد . . " رواها مالك عن سعيد بن المسيب مرسلا وفي رواية الدارقطني في السنن : "فقال : هلكت وأهلكت " وزعم الخطابي أن معلى بن منصور تفرد بها عن ابن عيينة وفي لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن بد من التكفير قال المنذري : قول الزهري ذلك دعوى لا دليل عليها وعن ذلك ذهب سعيد بن جبير إلى عدم وجوب الكفارة على من أفطر في رمضان بأي شيء أفطر قال لانتساخه بما في آخر الحديث بقوله : "كلها أنت وعيالك ". أهـ . وجمهور العلماء على قول الزهري .

وأما موجبها فقد أشار إليه المصنف بقوله : (فلا تجب إلا بالجماع) أي : بإفساد صوم يوم من رمضان بجماع تام أثم به لأجل الصوم وفي الضابط قيود منها الإفساد فمن جامع ناسيا لا يفسد صومه على الصحيح من الطريقين ، وقد تقدم ولا كفارة عليه وإن قلنا يفسد صومه وبه قال مالك وأحمد فهل تلزمه الكفارة ؟ فيه وجهان : أحدهما : وبه قال أحمد نعم لانتسابه إلى التقصير وأظهرهما وبه قال مالك : لا ؛ لأنها تتبع الإثم ومنها كون اليوم من رمضان فلا كفارة بإفساد التطوع والنذر والقضاء والكفارة لأن النص ورد في رمضان وهو مخصوص بفضائل لا يشركه غيره فيها وأما المرأة الموطوءة فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره أو صائمة ولم يبطل صومها لكونها نائمة مثلا فلا كفارة عليها وإن مكثت طائعة حين وطئها الزوج فقولان : أحدهما تلزمها الكفارة كما تلزم الرجل لأنها عقوبة فاشتركا فيها كحد الزنا وهذا أصح الروايتين عن أحمد وبه قال أبو حنيفة ويروى مثله عن مالك وابن المنذر وهو اختيار أبي الطيب ونسبه المصنف في الوجيز إلى القول القديم ونقله في الوسيط تبعا لشيخه إمام الحرمين عن الإملاء وليس تسميته قديما من هذا الوجه فإن الإملاء محسوب من الكتب الجديدة أو إنه مروي عن القديم والإملاء معا ويشبه أن يكون له في القديم قولان : أحدهما : كالجديد وأظهرهما : لا يلزمها بل تجب على الزوج فعلى الأول لو لم تجب الكفارة على الزوج لكونه مفطرا أو لم يبطل صومه لكونه ناسيا أو استدخلت ذكره نائما لزمتها الكفارة ويعتبر في كل واحد منهما حاله في اليسار والإعسار وإذا قلنا بالأظهر فهل الكفارة التي يخرجها عنه خاصة ويلاقيها الوجوب أم هي عنه وعنها ويتحملها عنها ؟ فيه قولان مستنبطان من كلام الشافعي -رحمه الله- وربما قيل : وجهان : أصحهما عند المصنف : الأول وبه قال الحناطي وآخرون وذكر [ ص: 220 ] الإمام أن ظاهر المذهب هو الثاني وقد يحتج له بقوله في المختصر : فالكفارة عليه واجبة عنه وعنها لكن من قال بالأول حمله على أنها تجزي عن الفعلين جميعا ولا تلزمها كفارة خاصة خلاف ما قاله أبو حنيفة وتتفرع على القولين صور :

إحداها : إذا أفطرت بزنا أو وطء شبهة فإن قلنا بالأول فلا شيء عليهما وإلا فعليهما الكفارة لأن التحمل بالزوجية وقيل : تجب عليها بكل حال وهذا نقل عن الحاوي وعن القاضي أبي حامد .

الثانية : إذا كان الزوج مجنونا فعلى الأول لا شيء عليها وعلى الثاني وجهان : أصحهما : تلزمها وهو الذي ذكره المصنف في الوجيز لأن التحمل لا يليق بحاله والمراهق كالمجنون وقيل : كالبالغ تخريجا من قولنا عمده عمد وإن كان ناسيا أو نائما فاستدخلت ذكره فكالمجنون .

الثالثة : إذا كان مسافرا أو الزوجة حاضرة فإن أفطر بالجماع بنية الترخص فلا كفارة وكذا إن لم يقصد الترخص على الأصح وكذا حكم المريض الذي يباح له الفطر إذا أصبح صائما ثم جامع وكذا الصحيح إذا مرض في أثناء النهار ثم جامع فحيث قلنا بوجوب الكفارة فهو كغيره وحيث قلنا لا كفارة فهو كالمجنون وذكر العراقيون أنه إذا قدم المسافر مفطرا فأخبرته بفطرها وكانت صائمة إن الكفارة عليها إذا قلنا الوجوب يلاقيها لأنها غرته وهو معذور .

ونقل النووي في زيادات الروضة عن صاحب المعاياة قال فيمن وطئ زوجته ثلاثة أقوال : أحدها : تلزمه الكفارة دونها ، والثاني : تلزمه الكفارة عنهما ، والثالث : تلزم كل واحد منهما ويتحمل الزوج ما دخله التحمل من العتق والإطعام فإذا وطئ أربع زوجات في يوم لزمه على القول الأول كفارة فقط عن الوطء الأول ولا يلزمه شيء عن باقي الوطآت ويلزمه على الثاني أربع كفارات كفارة عن وطئه الأول عنه وعنها وثلاث عنهن لأنها لا تتبعض إلا في موضع يوجد تحمل الباقي ويلزمه على الثالث خمس كفارات كفارتان عنه وعنها بالوطء الأول قال ولو كانت له زوجتان مسلمة وذمية فوطئهما في يوم فعلى الأول : عليه كفارة واحدة بكل حال وعلى الثاني : إن قدم وطء المسلمة فعليه كفارة وإلا فكفارتان وعلى الثالث : كفارتان بكل حال لأنه إن قدم المسلمة لزمه كفارتان عنه وعنها ولم يلزمه للذمية شيء وإن قدم الذمية لزمه لنفسه كفارة ثم للمسلمة آخر هذا كلامه وفيه نظر والله أعلم .

الرابعة : الوجوب يلاقيها إن اعتبرنا حالهما جميعا وقد يتفق وقد يختلف فإن اتفق نظر إن كانا من أهل الإعتاق أو الإطعام أخرج المخرج عنها وإن كانا من أهل الصيام لكونهما معسرين أو مملوكين لزم كل واحد منهما صوم شهرين لأن العبادة البدنية لا تتحمل وإن اختلف حالهما فإن كان أعلى حالا منهما نظر إن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أو الإطعام يجزئه العتق إلا أن تكون أمة فعليها الصوم لأن العتق لا يجزئ عنها والوجه الثاني : لا يجزئ عنها لاختلاف الجنس فعلى هذا يلزمها الصوم إن كانت من أهله وفيمن يلزمه الإطعام إن كانت من أهله وجهان : أصحهما : على الزوج وإن عجز ثبتت في ذمته إلا أن يقدر لأن الكفارة على هذا القول معدودة من مؤنة الزوجة الواجبة على الزوج ، الثاني : يلزمها وإن كان من أهل الصيام وهي من أهل الإطعام قال الأصحاب : يصوم عن نفسه ويطعم عنها وأما إذا كانت أعلى حالا منه فإن كانت من أهل الإعتاق ، وهو من أهل الصيام صام عن نفسه وأعتق عنها إذا قدر وإن كانت من أهل الصيام ، وهو من أهل الإطعام صامت عن نفسها وأطعم عن نفسه واعلم أن جماع المرأة إذا قلنا لا شيء عليها والوجوب يلاقيها مستثنى عن الضابط .




الخدمات العلمية