الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              3069 (4) باب ما جاء في العمرى

                                                                                              [ 1733 ] عن جابر بن عبد الله الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل أعمر رجلا عمرى له ولعقبه فقال: قد أعطيتكها وعقبك ما بقي منكم أحد، فإنها لمن أعطيها، وإنها لا ترجع إلى صاحبها من أجل أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث.

                                                                                              رواه مسلم (1625) (20)، وأبو داود (3553)، والترمذي (1350)، والنسائي ( 6 \ 275 ). [ 1734 ] وعنه، قال: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت، فإنها ترجع إلى صاحبها. قال معمر: وكان الزهري يفتي به.

                                                                                              وفي رواية: قال عليه الصلاة والسلام: العمرى لمن وهبت له .

                                                                                              وفي أخرى: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعمر عمرى فهي للذي أعمرها حيا وميتا ولعقبه.

                                                                                              وفي أخرى: جعل الأنصار يعمرون المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسكوا عليكم أموالكم".

                                                                                              وفي أخرى: قال عليه الصلاة والسلام: "العمرى جائزة".

                                                                                              رواه أحمد ( 3 \ 294 )، ومسلم (1625) (23 و 26 و 27)، وأبو داود (3555)، والنسائي ( 6 \ 274 ). [ 1735 ] وعن أبي الزبير، عن جابر قال: أعمرت امرأة بالمدينة حائطا لها ابنا لها، ثم توفي وتوفيت بعده، وترك ولدا، وله إخوة بنون للمعمرة، فقال ولد المعمرة: رجع الحائط إلينا، وقال بنو المعمر: بل كان لأبينا حياته وموته، فاختصموا إلى طارق مولى عثمان، فدعا جابرا فشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لصاحبها، فقضى بذلك طارق ثم كتب إلى عبد الملك فأخبره ذلك، وأخبره بشهادة جابر، فقال عبد الملك: صدق جابر، فأمضى ذلك طارق، فإن ذلك الحائط لبني المعمر حتى اليوم.

                                                                                              رواه مسلم (1625) (28).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (4) ومن باب: العمرى

                                                                                              (قوله: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه ) العمرى في اللغة: هي أن يقول الرجل للرجل: هذه الدار لك عمري أو عمرك. وأصلها من العمر؛ قاله أبو عبيد . وقال غيره: أعمرته الدار جعلتها له عمره. وقال الحربي : سمعت ابن الأعرابي يقول: لم يختلف العرب أن هذه الأشياء على ملك أربابها: العمرى، والرقبى، والسكنى، والإطراق، والمنحة، والعرية، والعارية، والأفقار. ومنافعها لمن جعلت له.

                                                                                              قلت: وعلى هذا: فالعمرى الواردة في الحديث حقها أن تحمل على هذا. فتكون: تمليك منافع الرقبة مدة عمر من قيدت بعمره، فإن لم يذكر عقبا؛ فمات المعمر رجعت إلى الذي أعطاها ولورثته. فإن قال: هي لك ولعقبك؛ لم ترجع إلى الذي أعطاها إلا أن ينقرض العقب.

                                                                                              [ ص: 593 ] وعلى هذا: فيكون الإعمار بمعنى الإسكان؛ إذا قيده بالعمر، غير أن الأحاديث التي جاءت في هذا الباب تقتضي بحكم ظاهرها أنها تمليك الرقبة على ما هي مسرودة في الأصل، فاختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:

                                                                                              أحدها: ما تقدم، وهي أنها تمليك منافع الرقبة. وهو قول القاسم بن محمد ، ويزيد بن قسيط ، والليث بن سعد ، وهو مشهور مذهب مالك ، وأحد قولي الشافعي . وقال مالك : وللمعمر أن يكريها ولا يبعد، وله أن يبيعها من الذي أعطاها، لا من غيره.

                                                                                              وثانيها: أنها تمليك الرقبة ومنافعها، وهي هبة مبتولة. وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي ، وأصحابهما، والثوري ، والحسن بن حي ، وأحمد بن حنبل ، وابن شبرمة ، وأبي عبيد ؛ قالوا: من أعمر رجلا شيئا حياته فهو له حياته، وبعد وفاته لورثته؛ لأنه قد ملك رقبتها. وشرط المعطي الحياة أو العمر باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطل شرطه، وجعلها بتلة. وسواء قال: هي لك حياتك، أو: هي لك ولعقبك بعدك.

                                                                                              وثالثها: إن قال: عمرك؛ ولم يذكر العقب كان كالقول الأول. وإن قال: هي لك ولعقبك؛ كان كالقول الثاني. وبه قال الزهري ، وأبو ثور ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وابن أبي ذئب ، وقد روي عن مالك . وهو ظاهر قوله في "موطأ" يحيى بن يحيى .

                                                                                              فأهل القول الأول تمسكوا بأصل اللغة، وعضدوا ذلك بما رواه ابن القاسم عن مالك قال: رأيت محمدا وعبد الله ابني أبي بكر بن محمد بن عمرو [ ص: 594 ] ابن حزم ، وعبد الله يعاتب محمدا - وهو يومئذ قاض - يقول له: ما لك لا تقضي بحديث ابن شهاب في العمرى؟ فقال: يا أخي ! لم أجد الناس عليه، وأباه الناس. قال مالك : ليس عليه العمل، ولوددت: أنه محي. وعضدوه أيضا بأن قالوا: الأصل بقاء ملك المعطي للرقبة بإجماع، ولم يرد قاطع بإخراجه عن يده قبل الإعمار، وتأولوا جميع تلك الظواهر الواردة في الباب.

                                                                                              وأما أهل القول الثاني: فظواهر الأحاديث معهم، غير أنهم لا يسلم لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل شرط العمر؛ لأنه لو أبطله لبطلت العمرى بالكلية، ولامتنع إطلاق ذلك الاسم عليها، ولم تبطل؛ لأن الأصل في شروط المسلمين صحتها وبقاؤها بدليل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم) ذكره أبو داود وغيره عن أبي هريرة .

                                                                                              فإن قيل: هذا من الشروط التي قد أبطلها الشرع بقوله: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)، قلنا: لا نسلم: أنه ليس في كتاب الله؛ لأن كتاب الله هنا يراد به: حكم الله؛ بدليل السبب الذي خرج عليه الحديث المتقدم. وقد تقدم في العتق. ثم يلزم على هذا إبطال المنحة، والإفقار، والعارية، فإنها كلها عطايا بشروط، وليست كذلك باتفاق. فإن قيل: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي ذئب في "موطئه" من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قضى فيمن أعمر عمرى له ولعقبه: فهي بتلة لا يجوز للمعطي فيها شرط، ولا مثوبة. وهذا صريح في إبطال الشرط. فالجواب: إنا لا نسلم: أن هذا الشرط المنهي عنه هو نفس الإعمار في قوله: هي لك عمرك؛ لأنه لو كان كذلك لبطلت حقيقة العمرى، كما قلناه، ولأنه لو بطل ذلك لبطل قول المعطي: هي لك سنة من عمرك، ولم يبطل بالاتفاق، فلا تبطل. والجامع بين الصورتين: أن كل واحد منهما إعطاء ذكر فيه العمر. وقد قال [ ص: 595 ] القاسم بن محمد : ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم. ومما يتمسكون به قوله صلى الله عليه وسلم: (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) فقد صيرها ملكا؛ لأنه لا يورث عن الإنسان إلا ما كان يملك. ويجابون عن ذلك: بأن اللفظ ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول أبي سلمة بن عبد الرحمن ؛ كما قد رواه ابن أبي ذئب عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة ، وذكر الحديث المتقدم، فلما فرغ قال: قال أبو سلمة : (لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) . ولئن سلم ذلك؛ فإنما جاء ذلك من حيث ذكر العقب، فيكون فيه حجة لأهل القول الثالث، لا للثاني.

                                                                                              وأما أهل القول الثالث، فكأنهم أعملوا الاسم فيما لم يذكر فيه العقب، وتركوا مقتضاه، حيث منع منه الشرع. وكأنهم جمعوا بين الاسم والأحاديث التي في الباب. وقد شهد لصحة هذا رواية من قال عن جابر : إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت: فإنها ترجع إلى صاحبها. قال: وبه كان الزهري يفتي. ثم ما ورد من الروايات مطلقا فإنه مقيد بهذا الحديث. غير أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم انتهى عند قوله: (هي لك ولعقبك) وما بعده من كلام الزهري ، على ما قاله محمد بن يحيى الذهلي . وهو مما انفرد به معمر عن الزهري . وخالفه في ذلك سائر من رواه عن الزهري من الأئمة الحفاظ، كالليث ، ومالك ، وابن أخي الزهري ، وابن أبي ذئب . ولم يذكروا ذلك.

                                                                                              قلت: والذي يظهر لي، وأستخير الله في ذكره: أن حديث جابر في العمرى رواه عنه جماعة، واختلفت ألفاظهم اختلافا كثيرا، ثم رواه عن كل واحد من تلك الجماعة قوم آخرون. واختلفوا كذلك. ثم كذلك القول في الطبقة الثالثة. وخلط فيه بعضهم بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، فاضطرب، فضعفت الثقة به، مع ما ينضاف إلى ذلك من مخالفته للأصل المعلوم المعمول به: من أن الناس على شروطهم [ ص: 596 ] في أموالهم، كما قال القاسم بن محمد ، وكما دل عليه الحديث المتقدم في الشروط. وينضاف إلى ذلك: أن الناس تركوا العمل به؛ كما قال محمد بن أبي بكر . فتعين تركه، كما قال مالك : ليته محي. ووجب التمسك بأصل وضع العمرى، كما تقدم، وبالأصل المعلوم من الشريعة: من أن الناس على ما شرطوه في أعطياتهم. وهذا القول الأول، وليس على غيره معول. وإذا تقرر ذلك فلنبين وجه رد تلك الروايات إلى ما قررناه.

                                                                                              فأما قوله: ( وإنها لا ترجع إلى صاحبها، من أجل: أنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) . فيعني به: أنه لما جعلها للعقب؛ فالغالب أن العقب لا ينقطع، فلا تعود لصاحبها لذلك.

                                                                                              وأما قوله: (وقعت فيه المواريث) فإن سلمنا أنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فمعناه - والله أعلم -: أنها لما كانت تنتقل للعقب بحكم تلقيهم عن مورثهم، ويشتركون في الانتفاع بها أشبهت المواريث، فأطلق عليها ذلك.

                                                                                              [ ص: 597 ] وأما قوله: (أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها) فإنه من باب الإرشاد إلى الأصلح؛ لأن الإعمار يمنع المالك من التصرف فيما يملك رقبته آمادا طويلة، لا سيما إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإن الغالب: أنها لا ترجع إليه، كما قررناه. ولا يصح حمل هذا النهي على التحريم؛ لأنه قد قال في الرواية الأخرى: ( العمرى جائزة لمن وهبت له ) أي: عطية جائزة، ولأنها من أبواب البر، والمعروف، والرفق. فلا يمنع منه. وقول ابن عباس : لا تحل العمرى ولا الرقبى؛ محمول على ذلك، فإنه قال إثر ذلك: فمن أعمر شيئا فهو له، ومن أرقب شيئا فهو له. فقد جعلهما طريقين للتمليك. فلو كان عقدهما حراما كسائر العقود المحرمة لأمر بفسخهما.

                                                                                              وأما قوله: (فهي للذي أعمرها حيا وميتا) فيعني بذلك: إذا قال: هي لك ولعقبك؛ فإنه ينتفع بها في حياته، ثم ينتقل نفعها إلى عقبه بعد موته. وهذه الرواية وإن وقعت هنا مطلقة؛ فهي مقيدة بالروايات الأخر التي ذكر فيها العقب، لا سيما والراوي واحد، والقضية واحدة. فيحمل المطلق منها على المقيد قولا واحدا، كما قررناه في الأصول.

                                                                                              و (قوله: إنما العمرى التي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن يقول: هي لك ولعقبك ؛ أي: أمضى جوازها وألزمه دائما على ما ذكرناه.

                                                                                              [ ص: 598 ] و (قوله: وأما إذا قال: فهي لك ما عشت ) فإنها ترجع إلى صاحبها، فإن كان من قول النبي صلى الله عليه وسلم فهو نص فيما اخترناه. وإن كان من قول الراوي؛ فهو أقعد بالحال، وأعلم بالمقال.

                                                                                              تنبيه: القائلون: بأن العمرى تمليك الرقبة؛ فرقوا بينها وبين السكنى. فلو قال: أسكنتك حياتك. فإذا مات رجعت إلى صاحبها. إلا الشعبي : فإنه سوى بينهما، وقال في السكنى: لا ترجع إلى صاحبها بوجه. وهو شاذ لا يعضده نظر، ولا خبر. فإن العمرى عند القائلين: بأنها تمليك الرقبة، خارجة عن القياس. وإنما صاروا إليه من جهة ظواهر الأخبار، فلا تقاس السكنى عليها؛ لأن الخارج عن القياس لا يقاس عليه كما قررناه في الأصول. ولا خبر فيه، فلا يصار إليه. والله تعالى أعلم.




                                                                                              الخدمات العلمية