الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب .

قوله تعالى : من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الحرث العمل والكسب . ومنه قول عبد الله بن عمر : واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا . ومنه سمي الرجل حارثا . والمعنى أي : من طلب بما رزقناه حرثا لآخرته ، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين ، فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر . ومن كان يريد حرث الدنيا أي : طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والتوصل إلى المحظورات ، فإنا لا نحرمه الرزق أصلا ، ولكن لا حظ له في الآخرة من ماله ، قال الله تعالى : من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا وقيل : نزد له في حرثه نوفقه للعبادة ونسهلها عليه . وقيل : حرث الآخرة الطاعة ، أي : من أطاع فله الثواب . قيل : نزد له في حرثه أي : نعطه الدنيا مع الآخرة . وقيل : الآية في الغزو ، أي : من أراد بغزوه الآخرة أوتي الثواب ، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها . قال القشيري : والظاهر أن الآية في الكافر ، يوسع له في الدنيا ، أي : لا ينبغي له أن يغتر بذلك لأن الدنيا لا تبقى . وقال قتادة : إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا ، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا . وقال أيضا : يقول الله تعالى : ( من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما [ ص: 19 ] كتبنا له ومن آثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار ) . وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : وقوله - عز وجل - : من كان يريد حرث الآخرة من كان من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة نزد له في حرثه أي : في حسناته .

ومن كان يريد حرث الدنيا أي : من كان من الفجار يريد بعمله الحسن الدنيا نؤته منها ثم نسخ ذلك في الإسراء سبحان : ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) . والصواب أن هذا ليس بنسخ ; لأن هذا خبر والأشياء كلها بإرادة الله عز وجل . ألا ترى أنه قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت . وقد قال قتادة ما تقدم ذكره ، وهو يبين لك أن لا نسخ . وقد ذكرنا في ( هود ) أن هذا من باب المطلق والمقيد ، وأن النسخ لا يدخل في الأخبار . والله المستعان .

مسألة : هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله : إنه من توضأ تبردا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه ، فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا ، فلا يدخل أحدهما على الآخر ، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية ، قاله ابن العربي .

التالي السابق


الخدمات العلمية